فصل: مطلب في معنى النصيب وفوائد أخرى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في معنى النصيب وفوائد أخرى:

والنصيب هو حظّ الرجل من عمل الدنيا بلاغا للآخرة، أي اعمل لآخرتك كما تعمل لدنياك، وقيل النصيب هو الكفن، وقيل فيه:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ** رداءان تلوّى فيهما وحنوط

وفي الحقيقة ان آخر ما يأخذه ابن آدم من ماله الذي جمعه من حلال وحرام بكدّ يمينه وعرق جبينه الذي يقدم غدا على المحاسبة عليه أمام الملك العلام هو الكفن وشيء من الطيب لا غير، هذا ان قدر له الموت على الفراش، وإلا فقد لا يحصل على ذلك ان مات غرقا أو حرقا أو أكله السباع، فالسعيد من أمسك من ماله ما يكفيه وتصدق بالفضل لصلة رحمه وفقراء أمته ليدخر ثوابه في الدار الباقية، لأن هذه زائلة لا محالة ولو عمّر فيها ما عمر وقبل في المعنى:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ** يوما على آلة حدباء محمول

والقول الفصل ما قاله سيد الرسل: عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
وروى عمرو بن يموت المازني عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وهذا الحديث مرسل لأن عمر هذا لم يلق النبي صلّى اللّه عليه وسلم: ألا لا يغتر ابن آدم بالخمس الأول، فهي وبال عليه إذا لم يصرفها إلى التي خلقت إليها {وَأَحْسِنْ} إلى خلق اللّه مما تفضل به عليك {كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} لتكون من الشاكرين إحسانه فيزيدك إحسانا {وَلا تَبْغِ} وإياك أن تسعى فتطلب {الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ} لتظلم الناس وتطغى عليهم بسبب نعم اللّه، فتتعالى وتترفع عليهم فيسلبها اللّه منك قال صلّى اللّه عليه وسلم أشكروا النعم لا تزدروها.
وفي رواية لا تكفروها.
فإنها إن زالت هيهات أن تعود ولذا قالوا بالشكر تدوم النعم.
ومن أقبح القبائح أن تستعمل نعم اللّه في معصيته، لأنه جل جلاله تفضل على عباده كي يشكروه ويتفضلوا على عياله الفقراء، لا أن يبغوا بما تفضل عليهم، قال تعالى في الحديث القدسي: «الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي، فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي».
ولهذا البحث صلة في الآية 11 من سورة لقمان في ج 2 فراجعه ألا فلينتبه الغافلون المغرورون ليعلموا أنهم ليسوا بأفضل من الفقراء عند اللّه، وأن اللّه لم يخصهم بالغنى لفضلهم بل ليختبرهم هل يصرفونه مصارفه أم يبخلون به، كما اختبر ثعلبة الآتي ذكره في الآية 76 من سورة التوبة في ج 3 اما يحمد اللّه هذا الغني ان أغناه اللّه وجعله من المتصدقين على عباده ألا يخشى أن يفقره اللّه ويحوجه للسؤال من الغني، أما يسرّه أن تكون يده العليا وقال صلّى اللّه عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 77 في الأرض بظلم أهلها والتسلط عليهم وتشعر عدم المحبة لهذا الصنف بغضبه عليهم وكراهته إياهم، وهكذا فلا تجد آية صرح اللّه بها بلفظ البغض البتة، فتعلموا أيها الناس الأدب من أقوال اللّه ورسوله، فبدل أن تقول لأخيك كذبت قل له غير صحيح، أو ليس الأمر كذلك، فهو أدوم للمحبة وأعف للّسان وأطهر للقلب.
واعلم أن الذي لا يحبه اللّه فهو مكروه عنده مبغوض عند خلقه.
وإلى هنا انتهت نصيحة قوم قارون له، وانظر إلى غروره وطيشه في جوابه لهم {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ} أي ذلك المال الكثير ليس كما تقولون، وإنما كان {عَلى عِلْمٍ} عظيم {عِنْدِي} علمنيه؟؟؟ اللّه وفضل استوجبت فيه التفوق عليكم، فكان ذلك استحقاقا لي فردّ اللّه تعالى عليه بقوله عز قوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} هذا الخبيث {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ} من القرون الماضية {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} على جمع المال وعلما في استخراج الفضة والذهب من المعادن الأرضية واسترباحها في الأعمال والتجارات وتعاطي الحرف {وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للأموال منه ولم يدع دعوته هذه، وأراد الملعون بالعلم علم الكيمياء لأنه كان ماهرا فيها، إذ يستخرج من الرصاص الفضّة ومن النحاس الذهب، وكان حاذقا في نموّ المال، ولهذا ظن أنه أهل لذلك فأعطاه اللّه المال بفضله عليهم ولم يعلم أن تعليمه ذلك كان بتقدير اللّه إياه عليه، ولولا ذلك لما قدر أن يسقي نفسه جرعة ماء، ولكن من غرّه عمله غاب عنه زلله والعياذ باللّه، وما قيل إنه أراد بالعلم علم التوراة قيل لا قيمة له، لأنه لو أراد ذلك لما افتخر به على قومه وتفوق عليهم، لأن فيهم من يعلمها مثله، ولو كان، لساقه علمها إلى التواضع ولين الجانب وكثرة الإنفاق ومكارم الأخلاق لأنها هدى ونور أنزلها اللّه على موسى وقومه ليهتدوا بها وينتهوا عما تحلى به قارون من الكبرياء والعظمة، فكان مجرما عند اللّه تعالى بذلك {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 78 بل يدخلهم النار رأسا من غير حاجة إلى السؤال والاستعذار.
قال تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} الآية 36 من المرسلات المارة، ولا عذر لهم بعد تحقق توغلهم بالجرمية، فهم معروفون بأعمالهم، قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ} الآية 41 من سورة الرحمن في ج 3 أي بعلائهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ويطرحون في النار، لأن جوارحهم تنطق بما عملوه في الدنيا قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} يوم عيده مزينا باللباس الباهر متحليا بأنواع الأوسمة المرصعة بالجواهر راكبا على بغلة موشىّ سرّجها بالذهب والدر، وعن يمينه وشماله وخلفه سبعون الفا من الخدم والجواري، وكلهم مزيّن بأنواع الحلي ومرتد أحسن الثياب، لا يرى الرائي أحسن منهم في زمنهم، فلما رأى الناس موكبهم الفخم انقسموا قسمين، بين للّه الأخس منهما يقوله حكاية عنهم {قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا} قبل كانوا مسلمين، ولكن قالوا ما قالوا على سبيل الرغبة في اليسار كعادة البشر {يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ} من زخارف الدنيا وبهجتها {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 79 فيها إذ أوتي مما لم يؤت أحد مثله لما بهر عقولهم من عظمة ما رأوا من أمارات العز، ثم بيّن اللّه تعالى الأحسن منهما بما حكى عن حالهم بقوله جل قوله: {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بما وعد اللّه المتقين في الآخرة لأولئك المتمنين {وَيْلَكُمْ} بما قلتم وتمنيتم، وهذه كلمة دعاء بالهلاك ثم استعملت للردع والزجر عن ترك غير المرضي، وهو منصوب محلا أي ألزمكم اللّه الهلاك، ان هذا الذي ترونه عند قارون ليس بشيء محمود عاقبته، وهو فان ولكن {ثَوابُ اللَّهِ} الدائم في الآخرة {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا} في دنياء مما أوتي قارون وآله من الزخرفة، فاصبروا على ما أنتم عليه فالصبر فضيلة عظيمة عند اللّه {وَلا يُلَقَّاها} أي خصلة الصبر المترتب عليها ثواب اللّه {إِلَّا الصَّابِرُونَ} 80 صبرا حقيقيا لا لسمعة أو رياء بل صبر محض مبرأ من جميع شهوات الدنيا الخسيسة، فهم الراضون بما قسم اللّه لهم في هذه الدنيا الزائلة من القليل المتيقنون أن ثواب اللّه خير.
وانظر إلى فعل اللّه بمن يشاركه في كبريائه ولا يسمع قول أوليائه قال تعالى: {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ} التي فيها خزائنه {الْأَرْضَ} فابتلعتها معه لأنه لم يسند نعمه إلى منعمها، لذلك لم يمتعه بها إلا قليلا وسيرى وبالها غدا لأنه ظن أن علمه أهله لها فلينجه علمه من هذا الخسف، والخسف الذهاب في الأرض، يقال خسف المكان أي ذهب في الأرض، وخسف القمر زال ضوء.
وعين خاسفة إذا عدمت حدقتها قال تعالى: {فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لا من كان يمشي خلفه ولا غيرهم من جماعته يقدر على حفظها من الخسف الذي حل به أو يحول دونه {وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} 81 لنفسه فيخلصها، ولم يكن له عمل صالح فيكون سببا لإنقاذه، ثم ذكر حال وشأن الفريقين المذكورين أعلاء فقال عز قوله: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ} اليوم الكائن قبل يومك أي قبل الخسف الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إلخ، يقولون {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ} يضيق ويوسع على من يشاء، وكلمة وي يقولها النادم على الخطأ الذي وقع منه إظهارا لندمه واعلاما بذلك الخطأ على طريق التعجب {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا} بما تمنيناه من حالة قارون كما خسف به {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} 82 بنعم اللّه ولا ينجون من عذابه، قالوا هذا مظهرين الندم على ما فرط منهم من التمني.

.مطلب كلمة ويكأن وقصة قارون:

هذا وقد كتبت وي هنا متصلة بكأن لكثرة الاستعمال وإلا فهي كلمتان وي للتعجب وكأن للتشبيه، والقياس أن تكتب منفصلة بعضها عن بعض لجواز الوقف عليها، وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وي كأن من يكن له نشب يحبب ** ومن يفتقر يعش عيش ضر

وقال الأخفش: الكاف متصلة بها وهي مع الكاف اسم فعل بمعنى أعجب، والوقف على الكاف منها أي على ويك، وعليه قول عنترة:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها ** قيل الفوارس ويك عنتر اقدم

وذهب السكاكي إلى أن أصلها ويلك وخفّفت بحذف اللام، فبقيت ويك، وهي للردع والزجر وللبعث على ترك ما لا يرضي.
وقال أبو حيان: هي كلمة تحزّن وأنشد في التحقيق قوله:
ألا ويك المضرة لا تدوم ** ولا يبقى على البؤس النعيم

وعلى هذا يكون الكاف في موضع جرّ بالإضافة والعامل في أن بعدها على هذا الوجه والوجه الذي قبله فعل العلم المنصور، أي أي أعلم أن اللّه بسط إلخ، واعلم أنه لا يفلح إلخ، لأن أن بعدها مفتوحة الهمزة، أو بتقدير اللام أي لأن إلخ، على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك.
وحكى ابن قتيبة أن معى ذلك رحمة لك بلغه حمير.
وقال الفراء ويك بلغة العرب كقول الرجل ألا ترى إلى صنع اللّه تعالى؟ وقال أبو زيد وجماعة معه ويكأن حرف واحد بجملته، وهو بمعنى ألم تر، وهذه رواية عن ابن عباس.
فعلى من يستعمل هذه الكلمة أن لا يتعدى في معناها ولفظها ما ذكرناه، لأنا لم نبق زيادة لمستزيد.
وخلاصة قصة قارون على ما ذكره ابن عباس وغيره أنه لما نزلت الزكاة على سيدنا موسى بأنها عشر المال صالح قارون على أن يعطيه في كل ألف دينار دينارا، وفي كل ألف درهم درهما وفي كل ألف شاة شاة، وهكذا من كلّ ما عنده، وذلك بأمر اللّه تعالى لعلمه عز وجل أنه لا يعطي شيئا، وقد جاراه سيدنا موسى عليه السلام على ما أراد لتحق الكلمة عليه، فبعد أن رضي حاسب نفسه، فإذا هي شيء كثير بالنسبة لما عنده، فلم تسمح نفسه بإعطاء شيء، ولما علم أن موسى ليس بتاركه جمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى يريد أخذ أموالكم بعد أن أطعتموه في كل شيء وقد أتاهم الخبيث من جهة المال لعلمه بشدة حرصهم عليه لينال قصده، فقالوا أنت كبيرنا فأمرنا بالذي تراه، قال ائتوني بالباغية فلانة، فجاءوا بها حالا، فجعل لها ألف دينار وألف درهم وطستا من ذهب على أن تقول زنى بي موسى، وتعهد لها بأنها إذا قالت ذلك على ملأ الناس لموسى يجعلها كسائر نسائه فطمعت بذلك ورضيت، ثم قال للذين معه إذا تم هذا الأمر على رءوس الأشهاد فإن بني إسرائيل تخرج عليه ويرفضونه وأبقى لكم أنا أفيض عليكم من مالي.
وهذا كله من حب نفسه الخبيثة رئاسة والمال حسدا لموسى عليه السلام، وكان نقم عليه قبلا بسبب جعل هرون رئيسا للأحبار على رئاسة المذبح للقرابين، ولم يجعل له شيئا مع أن موسى لم يجعلها أخيه إلا بأمر اللّه، ولأنه أقسره على إعطاء الزكاة، وهو قد استكثرها وبخل للّه بها واستغل خبثه أملا بأخذ الرئاسة له وحبّا بالدنيا مع أنه لو عاش ما عاش نوح عليه السلام وأكل الذهب والفضة لما نفذ ما عنده، وهو أكبر رئيس من جهة دنيا لكثرة ما عنده.
قال سهيل ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح أبدا، والسعيد من عرف بصره عن أقواله وأفعاله، وفتح له سبيل رؤية منّة اللّه عليه في جميع الأحوال، والشقي من زين له في عينيه أقواله وأفعاله وأحواله، ولم يفتح له سبيل منّة اللّه عليه فافتخر بها وادعاها لنفسه فيهلكه شؤمه كما صار في قارون، ثم جمع قارون بني إسرائيل وأتى بهم إلى موسى، وقال له إنهم أتوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وقام بعضهم فقال من جملة ما قال من سرق قطعنا يده، من افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مئة جلدة، من زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت، قال قارون نازعا جلباب الحياء لأدب متلبسا بالجرأة والقسوة: وإن كنت أنت يا موسى؟ قال وإن كنت، قال فإن بني إسرائيل وأشار إلى جماعته يزعمون أنك فجرت بفلانة الباغية، ادعوها وأخذه الغضب، فجاءت ومثلث أمامه وهم من بين يديها ومن خلفها على القول ويمنونها بما تعهد به لها قارون، فقال لها أنشدك باللّه الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل لهم التوراة إلا صدقت؛ فتداركها اللّه وحفّها لتوفاق وقالت في نفسها إني أحدث توبة للّه أحسن مما وعدنيه قارون من المال لعزّ، فتقدمت وقالت بصوت عال لا واللّه حاشا موسى، ولكن قارون جعل جعلا على قذفه ووعدني أن أقول إنه فجربي، أما وقد حلفتني يا موسى فأنت براء طاهر زكي.