فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت: يدفعه أن العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلًا بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلًا باستضعاف مقيد بحال الإرادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال. انتهى.
وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالًا مساغًا أيضًا بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقًا غير مسلم فإن سبب العلم بالأولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب، يجوز أن يكون سببًا للعلم بالثانية، وأيضًا يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد الخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الإلزام، وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغًا وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسرًا بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشادة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر، والانصاف أن قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} [القصص: 4] الخ لا يظهر كونه بيانًا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معًا على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على {إن فرعون} [القصص: 4] وإدخاله في حيز البيان وإلا فالظاهر من إن فرعون الخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبإ فرعون فقط فتأمل {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} مقتدى بهم في الدين والدنيا على ما في البحر، وقال مجاهد دعاة إلى الخير.
وقال قتادة ولاة كقوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} [المائدة: 20] وقال الضحاك أنبياء وأيًا ما كان ففيه نسية ما للبعض إلى الكل {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} لجميع ما كان منتظمًا في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يومىء إليه التعريف وذلك بأن لا ينازعهم أحد فيه.
{وَنُمَكّنَ لَهُمْ في الأرض} أي في أرض مصر، وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكانًا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم على أرض مصر يتصرفون وينفذ أمرهم فيها كيفما يشاءون، وظاهر كلام بعضهم أن المراد بالأرض ما يعم مصر والشام مع أن المعهود هو أرض مصر لا غير وكأن ذلك لما أن الشام مقر بني إسرائيل.
وقرأ الأعمش {ولنمكن} بلام كي أي وأوردنا ذلك لنمكن فعلنا ذلك.
{وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا} إضافة إلى الجنود إلى ضمير هما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيرًا أو لأن جند السلطان جند الوزير، ونرى من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة، وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة، وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعول له الأول، وقوله تعالى: {مِنْهُمْ} أي من أولئك المستضعفين متعلق به، وقوله تعالى: {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني، والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة مثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين:
أبكاني البين حتى ** رأيت غسلي بعيني

وقيل: المراد رؤية وقت ذلك، وليس بذاك، والأمر على تقدير كونها بمعنى المعرفة فظاهر لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم، لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم، وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم.
وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام، وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي ويرى بالياء مضارع رأى، وفرعون بالرفع على الفاعلية، وكذا ما عطف عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{طسم (1)}.
تقدم القول في نظيره في فاتحة سورة الشعراء.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}.
الإشارة في قوله: {تلك ءايات الكتاب المبين} على نحو الإشارة في نظيره في سورة الشعراء (2).
فالمشار إليه ما هو مقروء يوم نزول هذه الآية من القرآن تنويهًا بشأن القرآن وأنه شأن عظيم.
وجملة {نتلو عليك من نبأ موسى} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
ومهد لنبأ موسى وفرعون بقوله: {نتلو عليك} للتشويق لهذا النبأ لما فيه من شتى العبر بعظيم تصرف الله في خلقه.
والتلاوة: القراءة لكلام مكتوب أو محفوظ كما قال تعالى: {وأن أتلو القرآن} [النمل: 92]، وهو يتعدى إلى من تبلغ إليه التلاوة بحرف على وتقدمت عند قوله: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} في [البقرة: 102]، وقوله: {وإذا تليت عليهم ءاياته} في سورة [الأنفال: 2].
وإسناد التلاوة إلى الله إسناد مجازي لأنه الذي يأمر بتلاوة ما يوحى إليه من الكلام والذي يتلو حقيقة هو جبريل بأمر من الله، وهذا كقوله تعالى: {تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق} في سورة [البقرة: 252].
وجلعت التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي يتلقى ذلك المتلو.
وعبر عن هذا الخبر بالنبإ لإفادة أنه خبر ذو شأن وأهمية.
واللام في {لقوم يؤمنون} لام التعليل، أي نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون فكانت الغاية من تلاوة النبأ على النبي صلى الله عليه وسلم هي أن ينتفع بذلك قوم يؤمنون فالنبي يبلغ ذلك للمؤمنين؛ فإن كان فريق من المؤمنين سألوا أو تشوّفوا إلى تفصيل ما جاء من قصة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسورة النمل وهو الظاهر، فتخصيصهم بالتعليل واضح وانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك معهم أجدر وأقوى، فلذلك لم يتعرض له بالذكر اجتزاء بدلالة الفحوى لأن المقام لإفادة من سأل وغيرهم غير ملتفت إليه في هذا المقام.
وإن لم يكن نزول هذه القصة عن تشوف من المسلمين فتخصيص المؤمنين بالتلاوة لأجلهم تنويه بأنهم الذين ينتفعون بالعِبَر والمواعظ لأنهم بإيمانهم أصبحوا متطلّبين للعلم والحكمة متشوفين لأمثال هذه القصص النافعة ليزدادوا بذلك يقينًا.
وحصول ازدياد العلم للنبيء صلى الله عليه وسلم بذلك معلوم من كونه هو المتلقي والمبلغ ليتذكر من ذلك ما علمه من قبل ويزداد علمًا بما عسى أن لا يكون قد علمه، وفي ذلك تثبيت فؤاده كما قال تعالى: {وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 120].
فالمراد بقوم يؤمنون قوم الإيمان شأنهم وسجيتهم.
وللإشارة إلى معنى تمكن الإيمان من نفوسهم أجري وصف الإيمان على كلمة قوم ليفيد أن كونهم مؤمنين هو من مقومات قوميتهم كما قدمناه غير مرة.
فالمراد: المتلبسون بالإيمان.
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أن إيمانهم موجود في الحال ومستمر متجدد.
وفي هذا إعراض عن العبء بالمشركين في سوق هذه القصة بما يقصد فيها من العبرة والموعظة فإنهم لم ينتفعوا بذلك وإنما انتفع بها من آمن ومن سيؤمن بعد سماعها.
والباء في قوله: {بالحق} للملابسة، وهو حال من ضمير {نتلو} أو صفة للتلاوة المستفادة من {نتلو}.
والحق: الصدق لأن الصدق حق إذ الحق هو ما يحق له أن يثبت عند أهل العقول السليمة والأديان القويمة.
ومفعول {نتلو} محذوف دل عليه صفته وهي {من نبإ موسى وفرعون} فالتقدير: نتلو عليك كلامًا من نبأ موسى وفرعون.
و{من} تبعيضية فإن المتلو في هذه السورة بعض قصة موسى وفرعون في الواقع ألا ترى أنه قد ذكرت في القرآن أشياء من قصة موسى لم تذكر هنا مثل ذكر آية الطوفان والجراد.
وجعل الزمخشري {من} اسمًا بمعنى بعض فجعلها مفعول {نتلو}.
وجعل الأخفش {من} زائدة لأنه يرى أن {من} تزاد في الإثبات، فجعل {نبإ موسى} هو المفعول جُرّ بحرف الجر الزائدة.
والنبأ: الخبر المهم العظيم.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}.
وهذه الجملة وما عطف عليها بيان لجملة {نتلو} [القصص: 3] أو بيان ل {نبأ موسى وفرعون} [القصص: 3] فقدم له الإجمال للدلالة على أنه نبأ له شأن عظيم وخطر بما فيه من شتى العبر.
وافتتاحها بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر.
وابتدئت القصة بذكر أسبابها لتكون عبرة للمؤمنين يتخذون منها سننًا يعلمون بها علل الأشياء ومعلولاتها، ويسيرون في شئونهم على طرائقها، فلولا تجبر فرعون وهو من قبيح الخلال من حلّ به وبقومه الاستئصال، ولما خرج بنو إسرائيل من ذل العبودية.
وهذا مصداق المثل: مصائب قوم عند قوم فوائد، وقوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} [البقرة: 216].
وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله: {علا في الأرض} لتكون العبرة بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر.
ومعنى العلوّ هنا الكِبْر، وهو المذموم من العلو المعنوي كالذي في قوله تعالى: {نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض} [القصص: 83].
ومعناه: أن يستشعر نفسه عاليًا على موضع غيره ليس يساويه أحد، فالعلو مستعار لمعنى التفوّق على غيره، غير محقوق لحق من دين أو شريعة أو رعي حقوق المخلوقات معه فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح وتجنب فساد وضر وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهًا وأنه ابن الشمس.
فليس من العلو المذموم رجحان أحد في أمر من الأمور لأنه جدير بالرجحان فيه جريًا على سبب رجحان عقلي كرجحان العالم على الجاهل والصالح على الطالح والذكي على الغبي، أو سبب رجحان عادي ويشمل القانوني وهو كل رجحان لا يستقيم نظام الجماعات إلا بمراعاته كرجحان أمير الجيش على جنوده ورجحان القاضي على المتخاصمين.
وأعدل الرجحان ما كان من قبل الدين والشريعة كرجحان المؤمن على الكافر، والتقي على الفاسق، قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] ويترجح في كل عمل أهل الخبرة به والإجادة فيه وفيما وراء ذلك فالأصل المساواة.
وفرعون هذا هو رعمسيس الثاني وهو الملك الثالث من ملوك العائلة التاسعة عشرة في اصطلاح المؤرخين للفراعنة، وكان فاتحًا كبيرًا شديد السطوة وهو الذي ولد موسى عليه السلام في زمانه على التحقيق.
و{الأرض} هي أرض مصر، فالتعريف فيها للعهد لأن ذكر فرعون يجعلها معهودة عند السامع لأن فرعون اسم ملك مصر.
ويجوز أن تجعل المراد بالأرض جميع الأرض يعني المشهور المعروف منها، فإطلاق الأرض كإطلاق الاستغراق العرفي فقد كان ملك فرعون رعمسيس الثاني ممتدًا من بلاد الهند من حدود نهر الكنك في الهند إلى نهر الطونة في أوروبا، فالمعنى أرض مملكته، وكان علوه أقوى من علو ملوك الأرض وسادة الأقوام.
والشيع: جمع شيعة.
والشيعة: الجماعة التي تشايع غيرها على ما يريد، أي تتابعه وتطيعه وتنصره كما قال تعالى: {هذا من شيعته وهذا من عدوه} [القصص: 15]، وأطلق على الفرقة من الناس على سبيل التوسع بعلاقة الإطلاق عن التقييد قال تعالى: {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم: 32].