فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه عدوًّا وحزنًا بالعلة الغائية كالتبني والنفع تشبيهًا مضمرًا في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية في المجرور واللام على حقيقتها، الثاني أن يشبه أولًا ترتب غير العلة الغائية بترتب العلة الغائية أي يعتبر التشبيه بين الترتبين الكليين ليسري في جزئياتهما فيتحقق تبعًا تشبيه ترتب كونه عدوًا وحزنًا أعني الترتب المخصوص على الالتقاط بترتب التبني ونحوه مما هو علة غائية أعني الترتب المخصوص أيضًا عليه ثم يستعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فتكون الاستعارة أولًا في العلية والغرضية وتبعًا في اللام فصار حكم اللام حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه العلة كما استعير الأسد لما يشبه الأسد بيد أن الاستعارة هاهنا مكنية تبعية، الثالث ما أفاده كلام الخطيب الدمشقي في التلخيص والإيضاح وهو أن يقدر التشبيه أولًا لكونه عدوًا وحزنًا بالعلة الغائية ثم يسري ذلك التشبيه إلى تشبيه ترتبه بترتب العلة الغائية فتستعار اللام الموضوعة لترتب العلة الغائية لترتب كونه عدوًا وحزنًا من غير استعارة في المجرور وهذا التشبيه كتشبيه الربيع بالقادر المختار ثم إسناد الانبات إليه وهو مفاد كلام الكشاف، واختار ذلك العلامة عبد الحكيم، فقال: وو الحق عندي لأن اللام لما كان معناها محتاجًا إلى ذكر المجرور كان اللائق أن تكون الاستعارة والتشبيه فيها تابعًا لتشبيه المجرور لا تابعًا لتشبيه معنى كلي بمعنى كلي معنى الحرف من جزئياته كما ذهب إليه السكاكي وتبعه العلامة التفتازاني انتهى فتأمل.
واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد لا ينافي قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون الخ، والتعليل فيه إنما هو للأخذ ولا إشكال فيه.
وقال بعضهم: يحتمل تعلق اللام بمقدار أي قدرنا الالتقاط فيكون الخ، وعليه لا تجوز في الكلام إلا عند من يقول: إن أفعال الله تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال، وفي جعله عليه السلام نفس الحزن ما لا يخفى من المبالغة.
وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان حزنًا بضم الحاء وسكون الزاي، وقرأ الجمهور بفتحتين لغة قريش {إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين} في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفًا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرونه، روى أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد.
و{خاطئين} على هذا من الخطأ في الرأي، ويجوز أن يكون من خطىء بمعنى أذنب، وفي الأساس يقال: خطىء خطأ إذا تعمد الذنب، والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم، والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} فإنه كما سمعت استعارة تهكمية وعلى الثاني، اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام، وقيل: يتعين عليه أن تكون اعتراضًا لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافًا بيانيًا إن أريد بما ابتلوا به كونه عدوًا وحزنًا وهو لا ينافي الاعتراض عندهم، وقرىء خاطين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر، وقيل: هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز.
{وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ} آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل، وقيل: كانت منهم من سبط موسى عليه السلام، وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب، والمشهور القول الأول.
والجملة عطف على جملة {فالتقطه آل فرعون} [القصص: 8] أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت.
{قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ} أي هو قرة عين كائنة لي ولك على أن قرة خبر مبتدأ محذوف، والظرف في موضع الصفة له ويبعد كما في البحر أن يكون مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوهُ} وقالت ذلك لما ألقى الله تعالى من محبته في قلبها أو لما كشف لها فرأته من النور بين عينيه أو لما شاهدته من برء بنت فرعون من البرص بريقه أو بمجرد النظر إلى وجهه، ولتفخيم شأن القرة عدلت عن لنا إلى لي ولك وكأنها لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه قدمت نفسها عليه فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتله، فلا يقال إن الأظهر في الترغيب بذلك العكس وقد يستأنس لكون مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه ما أخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها حين قالت له ذلك قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها، وهذا أمر فرضي فلا ينافي ما ورد من أنه عليه اللعنة طبع كافرًا، والخطاب في لا تقتلوه قيل: لفرعون وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر والجمع للتعظيم، وكونه لا يوجد في كلام العرب الموثوق بهم إلا في ضمير المتكلم كفعلنا مما تفرد به الرضى وقلده فيه من قلده وهو لا أصل له رواية ودراية قال أبو علي الفارسي في فقه اللغة من سنن العرب مخاطبًا الواحد بلفظ الجمع فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري، وهكذا في سر الأدب وخصائص ابن جني وهو مجاز بليغ وفي القرآن الكريم منه ما التزام تأويله سفه، وقيل: هو لفرعون وأعوانه الحاضرين ورجح بما روى أن غواة قومه قالوا وقت إخراجه هذا هو الصبي الذي كنا نحذر منه فأذن لنا في قتله.
وقيل: هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب، واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بإدارة أمن جديد بقتله فالتفتت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها: {عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولًا في قولها: لي ولك وأفردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في {عسى أَن يَنفَعَنَا} الخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك بأن تقول؛ عسى أن ينفعني وينفعك مثلًا فتأمل.
ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجاة:
في المهد ينطق عن سعادة جده ** أثر النجابة ساطع البرهان

واتخاذه ولدًا لأنه لائق لتبني الملوك لما فيه من الأبهة وعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام أو تعتبر بينهما المغايرة وهو الأنسب بأو {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حا لمن آل فرعون والتقدير فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا وقالت امرأته له كيت وكيت، وهم لا يشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا.
وقال: قتادة لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يده.
وقال مجاهد أنه عدو لهم.
وقال محمد بن إسحاق: أني أفعل ما أريد لا ما يريدون والتقدير الأول أجمع، وجوز كونه حالًا من القائلة والمقول له معًا.
والمراد بالجمع اثنان على احتمال كون الخطاب في لا تقتلوه لفرعون فقط وكونه حالًا من القائلة فقط أي قالت امرأة فرعون له ذلك والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبها عليه لئلا يغروه بقتله وعلى الاحتمالات الثلاثة هو من كلام الله تعالى، وجوز كونه حالًا من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس لا لذي الحال إذ يكفي الواو للربط أي نتخذه ولدًا والناس لا يعلمون أنه لغيرنا وقد تبنيناه فيكون من كلام آسية رضي الله تعالى عنها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}.
عطف على جملة {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا} [القصص: 5]، إذ الكل من أجزاء النبأ.
وتتضمن هذه الجملة تفصيلًا لمجمل قوله: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا} فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم.
والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية.
فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقينًا ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه.
وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها.
وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها.
وقوله: {أن أرضعيه} تفسير ل {أوحينا}.
والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدّر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى.
والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن: أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليمّ.
وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بُنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أُحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم.
وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقيَّر وقذفته في النهر.
وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه {من المرسلين}.
والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عندما ترى دلائل المخافة من جواسيس فرعون وذلك ليكون إلقاؤه في اليم عند الضرورة دفعًا للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه.
و{اليم} البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل.
واليم في كلام العرب مرادف البحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر، فالنهر العظيم يسمى بحرًا قال تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذاب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج} [فاطر: 12]، فإن اليم من الأنهار.
وقد كانت هذه الآية مثالًا من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في الشفاء والقرطبي في التفسير يزيد أحدهما على الآخر عن الأصمعي: أنه سمع جارية أعرابية تنشد:
أستغفر الله لأمري كله ** قتلت إنسانًا بغير حله

مثل غزال ناعمًا في دله ** انتصف الليل ولم أُصَلِّه

وهي تريد التورية بالقرآن.
فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك يريد ما أبلغك وكانوا يسمون البلاغة فصاحة فقالت له: أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} فجمع في آية واحدة خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين.
فالخبران هما {وأوحينا إلى أم موسى} وقوله: {فإذا خفت عليه} لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه.
والأمران هما: {أرضعيه} و{ألقيه}.
والنهيان: {ولا تخافي} و{لا تحزني}.
والبشارتان: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين}.