فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{مّنْ أَهْلِهَا} في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر، وقرأ أبو طالب القارىء على حين بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراآت الدال في {الحمد لله} [الفاتحة: 2] مجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل: على حين غفل أهلها فنبي حين كما يبنى إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

وهو كما ترى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين.
قال ابن عطية: في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجىء الحال من النكرة من غير شرط، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف، وقوله تعالى: {هذا مِن شِيعَتِهِ} أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الإتقان: هو السامري {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في الإتقان أيضًا قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ** لو شئت ساقكم إليّ قطينا

وهذه الإشارة قائمة مقام الضمير في الربط والعطف سابق على الوصفية، واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين، فقيل: كان أمرًا دينيًا، وقيل: كان أمرًا دنيويًا، روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا لذلك، وكان القبطي على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير خبازًا لفرعون.
{فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} أي فطلب غوثه ونصره إياه {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} ولتضمين الفعل معنى النصر عدى بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد: {استنصره بالامس} [القصص: 18]، ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قرىء فاستعانه بالعين المهملة والنون بدل الثاء، وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه، عن سيبويه وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني، وقول ابن عطية أنه ذكرها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه، وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح {فَوَكَزَهُ موسى} أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد.
قال أبو حيان: الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد؛ وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور، وفي كتب التفاسير مسطور.
وقرأ عبد الله {فلكزه} باللام وعنده فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضًا الضرب والدفع، وقيل: الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: الوكز على القلب واللكز على اللحى.
روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام: لقد هممت أن أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام، وكان قد أوتي قوة فوكزه {فقضى عَلَيْهِ} أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر، وقيل: هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم، وقيل: يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} أي من تزيينه.
وقيل: من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو، وقيل: ظاهر العداوة والإضلال، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو ومضل كل يطلبه صفة له وأيًا ما كان فمبين من أبان اللازم.
{قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بوكز ترتب عليه القتل {فاغفر لِى} ذنبي وإنما قال عليه السلام ما قال لأنه فعل ما لم يؤذن له به وليس من سنن آبائه الأنبياء عليهم السلام في مثل هذه الحادثة التي شاهدها وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع في شريعة من الشرائع قتلها، ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكبائر بعد النبوة وقبلها لأن أصل الوكز من الصغائر، وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره، والخطأ وإن كان لا يخلو عن الإثم، ولذا شرعت فيه الكفارة إلا أنه صغيرة أيضًا بل قيل: لا يشكل أيضًا على القول بعصمتهم عن الكبائر والصغائر مطلقًا لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع مترتبًا عليه لا عن قصد وكون الخطأ لا يخلو عن إثم في شرائع الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كما في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم غير معلوم وكذا مشروعية الكفارة فيه وكأنه عليه السلام بعد أن وقع منه ما وقع تأمل فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعظامهم خلاف الأولى، ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْمًا وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين} [الشعراء: 21] وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ أربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل.
وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله: {ظَلَمْتُ نَفْسِى} إني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله: {فاغفر لِى} فاستر على ذلك، وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور، ولا يخفى ما فيه، ويأبى عنه قوله تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} وترتيب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له لاستغفاره وجملة {أَنَّهُ} الخ كالتعليل للعلية أي إنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم، ولذا كان استغفاره سببًا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.
هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج.
وهذا الاعتراض نشأ عن جملة {ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13] فإن وعد الله لها قد حكي في قوله تعالى: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7].
فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله: {فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها} [القصص: 13]. إلى آخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله: {ولما بلغ أشدّه واستوى ءاتيناه حكمًا وعلمًا} وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى: {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله} [القصص: 29].
وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف، إلا قوله: {واستوى} فقيل: إن {استوى} بمعنى بلغ أشده، فيكون تأكيدًا، والحق أن الأشد كمال القوة لأن أصله جمع شدة بكسر الشين بوزن نعمة وأنعم وهي اسم هيئة بمعنى القوة ثم عومل معاملة المفرد.
وأن الاستواء: كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع {فاستغلظ فاستوى على سوقه} [الفتح: 29]، ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة لأن موسى كان رجلًا طوالًا كما في الحديث «كأنه من رجال شنُؤة» فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزه القبطي قاضيًا على الموكوز.
والحكم: الحكمة، والعلم: المعرفة بالله.
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} طويت أخبار كثيرة تنبىء عنها القصة وذلك أن موسى يفع وشب في قصر فرعون فكان معدودًا من أهل بيت فرعون، وقيل: كان يدعى موسى ابن فرعون.
وجملة {ودخل المدينة} عطف على جملة {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضيعه} [القصص: 7] عطف جزء القصة على جزء آخر منها، وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل، لعله بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون وكانت تقص عليه نبأه كله.
والمدينة هي منفيس قاعدة مصر الشمالية.
ويتعلق {على حين غفلة} ب {دخل}.
و{على} للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى: {على هدى من ربهم} [البقرة: 5]، أي متمكنًا من حين غفلة.
وحين الغفلة: هو الوقت الذي يغفل فيه أهل المدينة عما يجري فيها وهو وقت استراحة الناس وتفرقهم وخُلوّ الطريق منهم.
قيل: كان ذلك في وقت القيلولة وكان موسى مجتازًا بالمدينة وحده، قيل ليلحق بفرعون إذ كان فرعون قد مر بتلك المدينة.
والمقصود من ذكر هذا الوقت الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيدًا لقوله بعد {قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} [القصص: 19] الآيات ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر.
والإشارتان في قوله: {هذا من شيعته وهذا من عدوه} تفصيل لما أجمل في قوله: {رجلين يقتتلان}.
واسم الإشارة في مثل هذا لا يراعى فيه بُعدٌ ولا قُرب، فلذلك قد تكون الإشارتان متماثلتين كما هنا وكما في قوله تعالى: {لا إلى هؤلاء} [النساء: 143].
ويجوز اختلافهما كقول المتلمس:
ولا يقيم على ضيم يراد به ** إلا الأذلان غير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته ** وذا يشج فلا يرثي له أحد

والشيعة: الجماعة المنتمية إلى أحد، وتقدم آنفًا في قوله: {وجعل أهلها شيعًا} [القصص: 4].
والعدو: الجماعة التي يعاديها موسى، أي يُبغضها.
فالمراد بالذي من شيعته أنه رجل من بني إسرائيل، وبالذي من عدوه رجل من القبط قوم فرعون.
والعدو وصف يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم عند قوله تعالى: {فإنهم عدو لي} في سورة [الشعراء: 77].
ومعنى كون {هذا من شيعته وهذا من عدوه} يجوز أن يكون المراد بهذين الوصفين أن موسى كان يعلم أنه من بني إسرائيل بإخبار قصة التقاطه من اليمّ وأن تكون أمه قد أفضت إليه بخبرها وخبره كما تقدم، فنشأ موسى على عداوة القبط وعلى إضمار المحبة لبني إسرائيل.
وأما وكزه القبطي فلم يكن إلا انتصارًا للحق على جميع التقادير، ولذلك لما تكررت الخصومة بين ذلك الإسرائيلي وبين قبطي آخر وأراد موسى أن يبطش بالقبطي لم يقل له القبطي: إن تريد إلا أن تنصر قومك وإنما قال: {إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض} [القصص: 19].