فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي من المعرفة والحكم والتوحيد {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} أي عونًا للكافرين.
قال القشيري: ولم يقل بما أنعمت عليّ من المغفرة؛ لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالمًا بأن الله غفر له ذلك القتل.
وقال الماوردي: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} فيه وجهان: أحدهما: من المغفرة؛ وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي.
قال المهدوي: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} من المغفرة فلم تعاقبني.
الوجه الثاني: من الهداية.
قلت: {فَغَفَرَ لَهُ} يدلّ على المغفرة؛ والله أعلم.
قال الزمخشري قوله تعالى: {بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} يجوز أن يكون قَسَمًا جوابه محذوف تقديره؛ أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبنّ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}.
وأن يكون استعطافًا كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرًا للمجرمين.
وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته.
وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون؛ وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيليّ المؤدّية إلى القتل الذي لم يحلّ له قتله.
وقيل: أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع.
وقيل في بعض الروايات: إن ذلك الإسرائيلي كان كافرًا، وإنما قيل له إنه من شيعته لأنه كان إسرائيليًا ولم يرد الموافقة في الدين، فعلى هذا ندم لأنه أعان كافرًا على كافر، فقال: لا أكون بعدها ظهيرًا للكافرين.
وقيل: ليس هذا خبرًا بل هو دعاء؛ أي فلا أكون بعد هذا ظهيرًا؛ أي فلا تجعلني يا رب ظهيرًا للمجرمين.
وقال الفراء: المعنى؛ اللهم فلن أكون ظهيرًا للمجرمين؛ وزعم أن قوله هذا هو قول ابن عباس.
قال النحاس: وأن يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام؛ كما يقال: لا أعصيك لأنك أنعمت عليّ؛ وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء؛ لأن ابن عباس قال: لم يستثن فابتلي من ثاني يوم؛ والاستثناء لا يكون في الدعاء، لا يقال: اللهم اغفر لي إن شئت؛ وأعجب الأشياء أن الفراء روى عن ابن عباس هذا ثم حكى عنه قوله.
قلت: قد مضى هذا المعنى ملخصًا مبيّنًا في سورة النمل وأنه خبر لا دعاء.
وعن ابن عباس: لم يستثن فابتلي به مرة أخرى؛ يعني لم يقل فلن أكون إن شاء الله.
وهذا نحو قوله: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113].
الثانية: قال سلمة بن نُبَيط: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال: أعطهم؛ فقال: أعفني؛ فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه.
فقيل له ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئًا؟ وقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.
وقال عبد الله بن الوليد الوَصَّافي قلت لعطاء بن أبي رَبَاح: إن لي أخًا يأخذ بقلمه، وإنما يحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وادَّانَ؟ فقال: مَن الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القَسْري؛ قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: {رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} قال ابن عباس: فلم يستثن فابتلي به ثانية فأعانه الله، فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه قال عطاء: فلا يحلّ لأحد أن يعين ظالمًا ولا يكتب له ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئًا من ذلك فقد صار معينًا للظالمين.
وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاَقَ لهم دَوَاة أو بَرَى لهم قلمًا فيُجمعون في تابوت من حديد فيُرمى به في جهنم» ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الأقدام ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزلّ الله قدميه على الصراط يوم تَدْحَض فيه الأقدام» وفي الحديث: «من مشى مع ظالم فقد أجرم» فالمشي مع الظالم لا يكون جرمًا إلا إذا مشى معه ليعينه، لأنه ارتكب نهي الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2].
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفًا} قد تقدم في طه وغيرها أن الأنبياء صلوات الله عليهم يخافون؛ ردًّا على من قال غير ذلك، وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه؛ فقيل: أصبح خائفًا من قتل النفس أن يؤخذ بها.
وقيل: خائفًا من قومه أن يسلموه.
وقيل: خائفًا من الله تعالى.
{يَتَرَقَّبُ} قال سعيد بن جبير: يتلفت من الخوف.
وقيل: ينتظر الطلب؛ وينتظر ما يتحدّث به الناس.
وقال قتادة: {يَتَرَقَّبُ} أي يترقب الطلب.
وقيل: خرج يستخبر الخبر ولم يكن أحد علم بقتل القبطي غير الإسرائيلي.
و{أَصْبَحَ} يحتمل أن يكون بمعنى صار؛ أي لما قتل صار خائفًا.
ويحتمل أن يكون دخل في الصباح؛ أي في صباح اليوم الذي يلي يومه.
و{خَائِفًا} منصوب على أنه خبر {أصبح} وإن شئت على الحال، ويكون الظرف في موضع الخبر.
{فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي خلّصه بالأمس يقاتل قبطيًا آخر أراد أن يسخره.
والاستصراخ الاستغاثة.
وهو من الصراخ؛ وذلك لأن المستغيث يصرخ ويصوّت في طلب الغَوْث.
قال:
كُنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فزِعٌ ** كَانَ الصُّراخُ له قرعَ الظَّنَابِيب

قيل: كان هذا الإسرائيليّ المستنصر السامريّ استسخره طباخ فرعون في حمل الحطب إلى المطبخ؛ ذكره القشيري.
و{الَّذِي} رفع بالابتداء و{يَسْتَصْرِخُهُ} في موضع الخبر.
ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال.
وأمس لليوم الذي قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين، فإذا دخله الألف واللام أو الإضافة تمكن فأعرب بالرفع والفتح عند أكثر النحويين.
ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام.
وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمس مجرى ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربما اضطر الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب؛ قال الشاعر:
لقد رأيتُ عجبًا مُذْ أَمْسَا

فخفض بمذ ما مضى واللغة الجيدة الرفع، فأجرى أمس في الخفض مجراه في الرفع على اللغة الثانية.
{قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} والغويّ الخائب؛ أي لأنك تشادّ من لا تطيقه.
وقيل: مضلّ بيّن الضلالة؛ قتلت بسببك أمس رجلًا، وتدعوني اليوم لآخر.
والغويّ فعيل من أغوى يُغوي، وهو بمعنى مُغوٍ؛ وهو كالوجِيع والأليم بمعنى الموجِع والمؤلم.
وقيل: الغويّ بمعنى الغاوي.
أي إنك لغويّ في قتال من لا تطيق دفع شره عنك.
وقال الحسن: إنما قال للقبطيّ: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} في استسخار هذا الإسرائيليّ وهمّ أن يبطش به.
يقال: بَطَش يَبطُش ويبطِش والضم أقيس لأنه فعل لا يتعدى.
{قَالَ يا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي} قال ابن جبير.
أراد موسى أن يبطش بالقبطيّ فتوهم الإِسرائيليّ أنه يريده؛ لأنه أغلظ له في القول؛ فقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس} فسمع القبطيّ الكلام فأفشاه.
وقيل: أراد أن يبطش الإسرائيليّ بالقبطيّ فنهاه موسى فخاف منه؛ فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}.
{إِن تُرِيدُ} أي ما تريد.
{إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض} أي قتَّالًا؛ قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارًا حتى يقتل نفسين بغير حق.
{وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} أي من الذين يصلحون بين الناس. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ}.
والباء في {بما أنعمت} للقسم، والتقدير: أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة، والجواب محذوف، أي لأتوبن، {فلن أكون} أو متعلقة بمحذوف تقديره: اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، {فلن أكون} إن عصمتني {ظهيرًا للمجرمين}.
وقيل: {فلن أكون} دعاء لا خبر، ولن بمعنى لا في الدعاء، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية، وبقول الشاعر:
لن تزالوا كذاكم ثم ما زلت ** لهم خالدًا خلود الجبال

والمظاهرة، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على يده.
وقيل: بما أنعمت عليّ من النبوّ، فلن أستعملها إلاّ في مظاهرة أوليائك، ولا أدع قبطيًا يغلب إسرائيليًا.
واحتج أهل العلم بهذه الآية على منع معونة أهل الظلم وخدمتهم، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره.
وقال رجل لعطاء: إن أخي يضرب بعلمه ولا يعدو رزقه، قال: فمن الرأس، يعني من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: فأين قول موسى؟ وتلا الآية: {فأصبح في المدينة خائفًا} من قبل القبطي أن يؤخذ به، يترقب وقوع المكروه، به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه؟ قيل: خائفًا من أنه يترقب المغفرة.
وقيل: خائفًا يترقب نصرة ربه، أو يترقب هداية قومه، أو ينتظر أن يسلمه قومه.
{فإذا الذي استنصره بالأمس} أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه.
وإذا هنا للمفاجأة، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وهو معرب، فحركة سينه حركة إعراب لأنه دخلته أل، بخلاف حاله إذا عري منها، فالحجاز تنبيه إذا كان معرفة، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقًا، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور.
قال الشاعر:
وإني حسبت اليوم والأمس قبله ** إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب

{يستصرخه} يصيح به مستغيثًا من قبطيّ آخر، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ** كان الصراخ له قرع الطنابيب

قال له موسى: الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي {إنك لغوي مبين} لكونك كنت سببًا في قتل القبطي بالأمس، قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب.
وقيل: الضمير في له، والخطاب للقبطي، ودل عليه قوله: يستصرخه، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي.
{فلما أن أراد أن يبطش} الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى.
{بالذي هو عدو لهما} أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله: {إنك لغوي مبين} هو على سبيل إرادة السوء به، وظن أنه يسطو عليه.
قال، أي الإسرائيلي: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} دفعًا لما ظنه من سطو موسى عليه، وكان تعيين القائل القبطي قد خفي على الناس، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى، ونمى ذلك إلى فرعون، فأمر بقتل موسى.
وقيل: الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى، وخاطبه بما يقبح، وأن بعد لما يطرد زيادتها.
وقيل: لو إذا سبق قسم كقوله:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم ** لكان لكم يوم من الشر مظلم

وقرأ الجمهور: يبطش، بكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر: بضمها.
{إن تريد إلاّ أن تكون جبارًا في الأرض} وشأن الجبار أن يقتل بغير حق.
وقال الشعبي: من قتل رجلين فهو جبار، يعني بغير حق، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح. اهـ.