فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}.
إعادة {قال} أفاد تأكيدًا لفعل {قال رب إني ظلمت نفسي} [القصص: 16].
أعيد القول للتنبيه على اتصال كلام موسى حيث وقع الفصل بينه بجملتي {فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} [القصص: 16].
ونظم الكلام: قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، رب بما أنعمت فلن أكون ظهيرًا للمجرمين، وليس قوله: {قال رب بما أنعمت علي} مستأنفًا عن قوله: {فغفر له} [القصص: 16] لأن موسى لم يعلم أن الله غفر له إذ لم يكن يوحى إليه يومئذ.
والباء للسببية في {بما أنعمت علي} وما موصولة وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير مجرور بمثل ما جرّ به الموصول، والحذف في مثله كثير.
والتقدير: بالذي أنعمت به عليّ.
ويجوز أن تكون ما مصدرية وما صدق الإنعام عليه، هو ما أوتيه من الحكمة والعلم فتميزت عنده الحقائق ولم يبق للعوائد والتقاليد تأثير على شعوره.
فأصبح لا ينظر الأشياء إلا بعين الحقيقة، ومن ذلك أن لا يكون ظهيرًا وعونًا للمجرمين.
وأراد بالمجرمين من يتوسم منهم الإجرام، وأراد بهم الذين يستذلون الناس ويظلمونهم لأن القبطي أذل الإسرائيلي بغصبه على تحميله الحطب دون رضاه.
ولعل هذا الكلام ساقه مساق الاعتبار عن قتله القبطي وثوقًا بأنه قتله خطأ.
واقتران جملة {فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} بالفاء لأن الموصول كثيرًا ما يعامل معاملة اسم الشرط فيقترن خبره ومتعلقه بالفاء تشبيهًا له بجزاء الشرط وخاصة إذا كان الموصول مجرورًا مقدّمًا فإن المجرور المقدّم قد يقصد به معنى الشرطية فيعامل معاملة الشرط كقوله في الحديث «كما تكونوا يول عليكم» بجزم «تكونوا» وإعطائه جوابًا مجزومًا.
والظهير: النصير.
وقد دل هذا النظم على أن موسى أراد أن يجعل عدم مظاهرته للمجرمين جزاء على نعمة الحكمة والعلم بأن جعل شكر تلك النعمة الانتصار للحق وتغيير الباطل لأنه إذا لم يغير الباطل والمنكر وأقرهما فقد صانع فاعلهما، والمصانعة مظاهرة.
ومما يؤيد هذا التفسير أن موسى لما أصبح من الغد فوجد الرجل الذي استصرخه في أمسه يستصرخه على قبطي آخر أراد أن يبطش بالقبطي وفاء بوعده ربه إذ قال: {فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} لأن القبطي مشرك بالله والإسرائيلي موحِّد.
وقد جعل جمهور من السلف هذه الآية حجة على منع إعانة أهل الجور في شيء من أمورهم.
ولعل وجه الاحتجاج بها أن الله حكاها عن موسى في معرض التنويه به فاقتضى ذلك أنه من القول الحق.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي أصبح خائفًا من أن يطالب بدم القبطي الذي قتله وهو يترقب، أي يراقب ما يقال في شأنه ليكون متحفزًا للاختفاء أو الخروج من المدينة لأن خبر قتل القبطي لم يفش أمره لأنه كان في وقت تخلو فيه أزقة المدينة كما تقدم، فلذلك كان موسى يترقب أن يظهر أمر القبطي المقتول.
وإذا للمفاجأة، أي ففاجأه أن الذي استنصره بالأمس يستنصره اليوم.
والتعريف في الأمس عوض عن المضاف إليه، أي بأمسه إذ ليس هو أمسًا لوقت نزول الآية.
والاستصراخ: المبالغة في الصراخ، أي النداء، وهو المعبر عنه في القصة الماضية بالاستغاثة فخولف بين العبارتين للتفنن.
وقول موسى له {إنك لغوي مبين} تذمر من الإسرائيلي إذ كان استصراخه السالف سببًا في قتل نفس، وهذا لا يقتضي عدم إجابة استصراخه وإنما هو بمنزلة التشاؤم واللوم عليه في كثرة خصوماته.
والغوي: الشديد الغواية وهي الضلال وسوء النظر، أي أنك تشاد من لا تطيقه ثم تروم الغوث مني يومًا بعد يوم، وليس المراد أنه ظالم أو مفسد لأنه لو كان كذلك لما أراد أن يبطش بعدوه.
والبطش: الأخذ بالعنف، والمراد به الضرب.
وظاهر قوله: {عدو لهما} أنه قبطي.
وربما جعل عدوًا لهما لأن عداوته للإسرائيلي معروفة فاشية بين القبط وأما عداوته لموسى فلأنه أراد أن يظلم رجلًا والظلم عدو لنفس موسى لأنه نشأ على زكاء نفس هيأها الله للرسالة.
والاستفهام مستعمل في الإنكار.
والجبار: الذي يفعل ما يريد مما يضر بالناس ويؤاخذ الناس بالشدة دون الرفق.
وتقدم في سورة إبراهيم (15) قوله: {وخاب كل جبار عنيد} وفي سورة مريم (32) قوله: {ولم يجعلني جبارًا شقيًا}.
والمعنى: إنك تحاول أن تكون متصرفًا بالانتقام وبالشدة ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين بأن تسعى في التراضي بينهما.
ويظهر أن كلام القبطي زجر لموسى عن البطش به وصار بينهما حوارًا أعقبه مجيء رجل من أقصى المدينة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}.
قوله: {بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17] يعني: بالمغفرة وعذرتني وتُبْت عليَّ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] أي: عهد الله عليَّ ألاَّ أكون مُعينًا للمجرمين.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة} أي: بعد أن قتل موسى القبطيَّ صار خائفًا منهم {يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18].
ينظر في وجوه الناس، يرقب انفعالاتهم نحوه، فربما جاءوا ليأخذوه، كما يقولون: يكاد المريب أنْ يقول: خذوني، فلو جلس قوم في مكان، ثم فاجأهم رجال الشرطة تراهم مطمئنين لا يخافون من شيء، أما المجرم فيفر هاربًا.
ومن ذلك ما يقوله أهل الريف: اللي على راسه بطحة يحسس عليها.
وهو على هذه الحال من الخوف والترقُّب إذ بالإسرائيلي الذي استغاث به بالأمس {يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18] استصرخ يعني: صرخ، ونادى على مَنْ يُخلّصه، وهو انفعال للاستنجاد للخلاص من مأزق، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
وسبق أن تكلَّمنا في همزة الإزالة نقول: صرخ فلان يعني استنجد بأحد فأصرخه يعني: أزال سبب صراخه، فمعنى الآية: أنا لا أزيل صراخكم، ولا أنتم تزيلون صراخي.
عندها قال موسى عليه السلام لصاحبه الذي أوقعه في هذه الورطة بالأمس {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 18] تريد أنْ تُغويَني بأنْ أفعل كما فعلت بالأمس، وما كان موسى عليه السلام ليقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه، فلا يُلْدَغ المؤمن من جُحْر مرتين.
قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} [القصص: 19] يعني: أن موسى حَنَّ مرة أخرى للذي من شيعته وهو الإسرائيلي وناصره، ولكن الرجل القبطي هذه المرة واجهه {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس} [القصص: 19] فهو يعرف ما حدث من موسى، وما داموا قد عرفوا أنه القاتل، فلابد لهم أنْ يطلبوه، وأن ينتقموا منه.
وقوله تعالى: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} [القصص: 19] إنْ هنا نافية يعني: ما تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض، فقد قتلتَ نفسًا بالأمس، وتريد أنْ تقتلني اليوم.
إذن: عرفوا أن موسى هو القاتل، وهناك ولابد مَنْ يسعى للإمساك به، وفي هذا الموقف لحقه الرجل المؤمن: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} قال: معينًا للمجرمين.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} قال: إن أعين بعدها ظالمًا على فجره.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي رضي الله عنه؛ أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب ليس يلي من أمور السلطان شيئًا، إلا أنه يكتب لهم بقلم ما يدخل وما يخرج، فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتجاج، وإن أخذ به كان له فيه غنى قال: يكتب لمن؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرًا للمجرمين}؟ فلا يهتم بشيء وليرم بقلمه فإن الله سيأتيه برزق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الكاتب الضبي قال: قال رجل لعامر: يا أبا عمرو أني رجل كاتب، أكتب ما يدخل وما يخرج، آخذ ورقًا استغني به أنا وعيالي قال: فلعلك تكتب في دم يسفك؟ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ؟ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في دار تهدم؟ قال: لا. قال: أسمعت بما قال موسى عليه الصلاة والسلام {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} قال: رضي الله عنه قال: صليت إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما العصر، فسمعته يقول في ركوعه {رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرًا للمجرمين}.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط رضي الله عنه قال: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال: اذهب بعطاء أهل بخارى فاعطهم فقال: اعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقال له بعض أصحابه: ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئًا؟ فقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله: {فأصبح في المدينة خائفًا} قال: خائفًا أن يؤخذ.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله: {يترقب} قال: يتلفت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {يترقب} قال: يتوحش.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} قال: هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الذي استنصره: هو الذي استصرخه.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} قال: الاستصراخ: الاستغاثة. قال: والاستنصار والاستصراخ واحد. {قال له موسى إنك لغوي مبين} فاقبل عليه موسى عليه السلام فظن الرجل أنه يريد قتله فقال: يا موسى {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} قال: قبطي قريب منهما يسمعهما فافشى عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فلما أن أراد أن يبطش} قال: ظن الذي من شيعته إنما يريده فذلك قوله: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} أنه لم يظهر على قتله أحد غيره. فسمع قوله: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} عدوّهما فأخبر عليه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه الآية {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه قال: لا يكون الرجل جبارًا حتى يقتل نفسين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال: آية الجبابرة القتل بغير حق. والله أعلم. اهـ.