فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله: {ولما ورد} أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب {ماء مدين} أي الذي يستقي منها الرعاء {وجد عليه} أي على الماء {أمة} أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله: {من الناس} وبين عملهم أيضًا بقوله: {يسقون} أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنمًا بل مطلق الذياد وترك السقي {ووجد من دونهم} أي وجدانًا مبتدئًا من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها {تذودان} أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس.
ولما كان هذا حالًا موجبًا للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: {ما خطبكما} أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهوكالتعبير بالشأن عن المشئون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة {قالتا} أي اعتذارًا عن حالهما ذلك؛ وتلويحًا باحتياجهما إلى المساعدة: {لا} أي خبرنا أنا لا {نسقي} أي مواشينا، وحذفه للعلم به {حتى يصدر} أي ينصرف ويرجع {الرعاء} أي عن الماء لئلا يخالطهم- هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثيًا، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسر: يوجدوا الرد والصرف.
ولما كان التقدير: لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أبًا، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما: {وأبونا شيخ كبير} أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضًا عن كون أبيهما أرسلهما لذلك لأنه ليس بمحظور، فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة، وعاداتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر، لاسيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة {فسقى} أي موسى عليه الصلاة والسلام {لهما} لما علم ضرورتهما، انتهازًا لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف، مع ما به من النصب والجوع {ثم تولى} أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلًا ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي ليقيل تحته ويستريح، مقبلًا على الخالق بعد ما قضى من نصيحة الخلائق، وعرفه لوقوع العلم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولاسيما أماكن المياه {فقال} لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص {رب}.
ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلامًا بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال: {إني} ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون إلى فقال: {لما} أي لأي شيء.
ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسببًا عن القضاء الآتي عن العلي الكبير، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميمًا لحالة الافتقار، وتحققًا لإنجاز الوعد بالرزق فقال: {أنزلت} ولعله حذف العائد اختصارًا لما به من الإعياء {إليّ من خير} أي ولو قل {فقير} أي مضرور، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان قد بلغ من الضر أن اخضر بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره.
فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حالهما في ذات يدهما، وهما خلاصة ذلك الزمان، ليكون لك في ذلك أسوة، وتجعله إمامًا وقدوة، وتقول: يا بأبي وأمي! ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيا، صونًا لهم منها وإكرامًا من ربهم عنها، رغعة لدرجاتهم عنده، واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك، وفي القصة ترغيب في الخير، وحث على المعاونة على البر، وبعث على بذل المعروف مع الجهد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى}.
قال صاحب الكشاف يسعى يجوز ارتفاعه وصفًا لرجل، وانتصابه حالًا عنه، لأنه قد تخصص بقوله: {مِنْ أَقْصَى المدينة} والائتمار التشاور يقال الرجلان يتآمران يأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر والمعنى يتشاورون بسببك.
وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون، فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك.
أما قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي خائفًا على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ، ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال: {رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنبًا، وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصًا.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}.
اعلم أن الناس اختلفوا في قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} فال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله تعالى إلى مدين، وهذا قول ابن عباس، وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام، وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح، فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين، واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين: أحدهما: قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} ولو كان قاصدًا للذهاب إلى مدين لقال، ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال: {تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني: قوله: {عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالمًا بالطريق.
ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل، ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر، وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر.
أما قوله: {عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام: {إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وموسى عليه السلام قلما يذكر كلامًا في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئرًا فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي فوق شفيره ومستقاه {أُمَّةٍ} جماعة كثيرة العدد {مِنَ الناس} من أناس مختلفين {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} في مكان أسفل من مكانهم {امرأتين تَذُودَانِ} والذود الدفع والطرد فقوله: {تذودان} أي تحبسان ثم فيه أقوال: الأول: تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه: أحدها: قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها: كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها: لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني: كانتا تذودان عن وجوههما نظرًا الناظر ليراهما والقول الثالث: تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع: قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطبًا كما يسمى المشئون شأنًا في قولك ما شأنك {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه: أحدها: أن العادة في السقي للرجال، والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها: ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها: قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها: انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها: قولهما: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ودلالة ذلك على أنه لو كان قويًا حضر ولو حضر لم يتأخر السقي، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء، وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد.
قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، وقرأ الباقون بضم الياء، وكسر الدال فالمعنى في القراءة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد، ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم.
أما قوله: {فسقى لَهُمَا} أي سقى غنمهما لأجلهما، وفي كيفية السقي أقوال: أحدها: أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما: قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة، وقيل أربعون، وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها: أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن، والله أعلم بالصحيح منه، لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته، وقال تعالى: {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر، وفيه دلالة أيضًا على كمال قوة موسى عليه السلام، قال الكلبي: أتى موسى أهل الماء فسألهم دلوًا من ماء، فقالوا له إن شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلًا حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما.
فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية؟ قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيبًا والناس مختلفون فيه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيبًا عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر، لاسيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة.
وأما قوله: {قَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير، وإنما عدى فقيرًا باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة، إما إلى الطعام أو إلى غيره، إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعامًا يأكله، وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعامًا إلا بقل الأرض، وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك، فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم، فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام، أليس أنه عليه السلام قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي»؟ قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام ألبتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى، وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيرًا في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، فقال ذلك رضي بهذا البدل وفرحًا به وشكرًا له، وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام. اهـ.