فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وجاء رجل من أقصى المدينة} قيل: هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون.
قال الكلبي: واسمه جبريل بن شمعون.
وقال الضحاك: شمعون بن إسحاق.
وقيل: هو غير مؤمن آل فرعون.
{يسعى} يشتد في مشيه.
ولما أمر فرعون بقتله، خرج الجلاوزة من الشارع الأعظم، فسلك هذا الرجل طريقًا أقرب إلى موسى.
ومن أقصى المدينة، ويسعى: صفتان، ويجوز أن يكون يسعى حالًا، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء.
قال الزمخشري: وإذا جعل، يعني، من أقصى حالًا، لجاء لم يجز في يسعى إلاّ الوصف. انتهى.
يعني: أن رجلًا يكون نكرة لم توصف، فلا يجوز منها الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه في كتابه من غير وصف.
قال: {إن الملأ} وهم وجوه أهل دولة فرعون، {يأتمرون} يتشاورون، قال الشاعر، وهو النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ** وفي كل حادثة يؤتمر

قال ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضًا بقوله، من قوله تعالى: {وائتمروا بينكم بمعروف} {فاخرج إني لك من الناصحين}.
ولك: متعلق إما بمحذوف، أي ناصح لك من الناصحين، أو بمحذوف على جهة البيان، أي لك أعني، أو بالناصحين، وإن كان في صلة أل، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما.
وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل، وعلم صدقه ونصحه، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه.
وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق، ولم يصحب أحدًا، فسلك مجهلًا، واثقًا بالله تعالى، داعيًا راغبًا إلى ربه في تنجيته من الظالمين.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}.
{توجه} رد وجهه.
و{تلقاء} تقدم الكلام عليه في يونس، أي ناحية وجهه.
استعمل المصدر استعمال الظرف، وكان هناك ثلاث طرق، فأخذ موسى أوسطها، وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا: المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلاّ بنياتها.
فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حاف، لا يطعم إلا ورق الشجر.
والظاهر من قوله: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} أنه كان لا يعرف الطريق، فسأل ربه أن يهديه أقصد الطريق بحيث أنه لا يضل، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه.
وعن ابن عباس: قصد مدين وأخذ يمشي من غير معرفة، فأوصله الله إلى مدين.
وقيل: هداه جبريل إلى مدين.
وقيل: ملك غيره.
وقيل: أخذ طريقًا يأمن فيه، فاتفق ذهابه إلى مدين.
والظاهر أن سواء السبيل: وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه.
وقال مجاهد: سواء السبيل: طريق مدين.
وقال الحسن: هو سبيل الهدى، فمشى موسى عليه السلام إلى أن وصل إلى مدين، ولم يكن في طاعة فرعون.
{ولما ورد ماء مدين} أي وصل إليه، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء، وبمعنى الدخول فيه.
قيل: وكان هذا الماء بئرًا.
والأمة: الجمع الكثير، ومعنى عليه: أي على شفيره وحاشيته.
{يسقون} يعني مواشيهم.
{ووجد من دونهم} أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة، فهما من دونهم بالإضافة إليه، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: في مكان أسفل من مكانهم.
{تذودان} قال ابن عباس وغيره: تذودان غنمهما عن الماء خوفًا من السقاة الأقوياء.
وقال قتادة: تذودان الناس عن غنمهما.
قال الزجاج: وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء.
وقيل: لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم.
وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما.
وقال الفراء: تحبسانها عن أن تتفرق، واسم الصغرى عبرا، واسم الكبر صبورا.
ولما رآهما موسى عليه السلام واقفتين لا تتقدمان للسقي، سألهما فقال: {ما خطبكما}؟ قال ابن عطية: والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر.
قال الزمخشري: وحقيقته: ما مخطوبكما؟ أي ما مطلوبكما من الذياد؟ سمى المخطوب خطبًا، كما سمى الشئون شأنًا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شانت شأنه، أي قصدت قصده. انتهى.
وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعنّ ولم يكن لأبيهما أجير، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء، ولم تكن لهما قوة الإستقاء، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم، فإذا صدروا، فإن بقي في الحوض شيء سقتا.
فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء، فرق عليهما وقال: {ما خطبكما}؟ وقرأ شمر: بكسر الخاء، أي من زوجكما؟ ولم لا يسقي هو؟ وهذه قراءة شاذة نادرة.
{قالتا لا نسقي}.
وقرأ ابن مصرف: لا نسقي، بضم النون.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن، وقتادة، والعربيان: يصدر، بفتح الياء وضم الدال، أي يصدرون بأغنامهم؛ وباقي السبعة، والأعرج، وطلحة، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وعيسى: بضم الياء وكسر الدال، أي يصدرون أغنامهم.
وقرأ الجمهور: الرعاء، بكسر الراء: جمع تكسير.
قال الزمخشري: وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام. انتهى.
وليس بقياس، لأنه جمع راع؛ وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس.
وقرىء: الرعاء، بضم الراء، وهو اسم جمع، كالرخال والثناء.
قال أبو الفضل الرازي: وقرأ عياش، عن أبي عمرو: الرعاء، بفتح الراء، وهو مصدر أقيم مقام الصفة، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف.
{وأبونا شيخ كبير} اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
{فسقى لهما} أي سقى غنمهما لأجلهما.
وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرًا لا يقله إلا عدد من الرجال، واضطرب النقل في العدد، فأقل ما قالوا سبعة، وأكثره مائة، فأقله وحده.
وقيل: كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون، فنزع بها وحده.
وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما، كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع، حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من البقل.
وقيل: إنه مشى حتى سقط أصله، وهو باطن القدم، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما أمر السقي.
وقد طابق جوابهما لسؤاله.
سألهما عن سبب الذود، فأجاباه: بأنا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، فتؤخر السقي إلى فراغهم.
ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور، وعادة العرب وأهل البدو في ذلك غير عادة أهل الحضر والأعاجم، لاسيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة.
{ثم تولى إلى الظل} قال ابن مسعود: ظل شجرة.
قيل: كانت سمرة.
وقيل: إلى ظل جدار لا سقف له.
وقيل: جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس.
{فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} قال المفسرون: تعرض لما يطعمه، لما ناله من الجوع، ولم يصرح بالسؤال؛ وأنزلت هنا بمعنى تنزل.
وقال الزمخشري: وعدى باللام فقير، لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
ويحتمل أن يريد، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضا بالبدل السني وفرحًا به وشكرًا له.
وقال الحسن: سأل الزيادة في العلم والحكمة.
{فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي، وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تدعوه له. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة}.
أي كائنٌ من آخِرها أو جاءَ من آخِرها {يسعى} أي يسرعُ، صفةٌ لرجلٌ أو حالٌ منه على أنَّ الجارَّ والمجرورَ صفةٌ له لا متعلَّق بجاء فإن تخصصه يلحقه بالمعارفِ قيل: هو مؤمنُ آلِ فرعونَ واسمُه حِزْقيلُ وقيل: شَمعُون وقيل: شَمعانُ {قَالَ يَا موسى إنِ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي يتشاورُون بسببكَ فإنَّ كلًا من المتشاورينَ يأمرُ الآخرينَ ويأتمرُ {فاخرج} أي من المدينةِ {إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين} اللامُ لبيانِ لما أنَّ معمولَ الصِّلةِ لا يتقدمُها.
{فَخَرَجَ مِنْهَا} أي من المدينةِ {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} لحوقَ الطَّالبينَ {قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} خلِّصنِي منهم واحفظنِي من لُحوقِهم.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي نحوَ مدينَ وهي قريةُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ سميت باسمِ مدينَ بنِ إبراهيمَ ولم تكُن تحتَ سلطانِ فرعونَ وكان بينها وبين مصرَ مسيرةُ ثمانيةِ أيَّامٍ {قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} توكلًا على الله تعالى وثقةً بحُسنِ توفيقِه وكان لا يعرفُ الطرقَ فعنَّ له ثلاثُ طرائقَ فأخذَ في الوسطى وجاء الطلابُ فشرعُوا في الأُخريين وقيل: خرجَ حافيًا لا يعيشُ إلا بورقِ الشَّجرِ فما وصلَ حتَّى سقطَ خفُّ قدمِه وقيل: جاء مَلَكٌ على فرسٍ وبيدِه عنزَةٌ فانطلقَ به إلى مدينَ.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصلَ إليهِ وهو بئرٌ كانُوا يسقُون منها {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي فوقَ شفيرِها {أُمَّةً} جماعةً كثيفةً {مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي مواشيَهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي في موضعٍ أسفلَ منهم {امرأتين تَذُودَانِ} أي تمنعانِ ما معهما من الأغنامِ عن التقدمِ إلى البئرِ كيلا تختلطَ بأغنامِهم مع عدمِ الفائدة في التَّقدمِ {قَالَ} عليه السَّلام لهما حينَ رآهُما على ما هُما عليهِ من التَّأخرِ والذودِ {مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنُكما فيما أنتُما عليه من التَّأخرِ والذَّودِ ولم لا تباشرانِ السقيَ كدأبِ هؤلاءِ {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء} أي عادتُنا أن لا نسقيَ حتَّى يصرفَ الرُّعاةُ مواشيَهم بعد ريّها عن الماءِ عجزًا عن مساجلتِهم وحذرًا عن مخالطةِ الرجالِ لا أنا لا نسقي اليومَ إلى تلك الغايةِ، وحذفُ مفعولِ السَّقيِ والذَّودِ والإصدارِ لمَا أنَّ الغرضَ هو بيانُ تلك الأفعالِ أنفسِها إذْ هي التي دعتْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى ما صنعَ في حقِّهما من المعروفِ فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام إنَّما رحمَهما لكونِهما على الذيادِ للعجزِ والعفَّةِ وكونِهم على السقيِ غيرَ مُبالين بهما وما رحمهما لكونِ مذودِهما غنمًا ومسقيهم إبلًا مثلًا. وقُرىء لا نُسقي من الإسقاءِ ويَصدُر من الصُّدورِ والرُّعاء بضمِّ الرَّاءِ وهو اسمُ جمعٍ كالرُّحالِ وأما الرِّعاءِ فجمعٌ قياسيٌّ كصِيامٍ وقِيامٍ. وقولُه تعالى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} إبلاءٌ منهما للعُذرِ إليه عليه السَّلامُ في تولِّيهما للسَّقيِ بأنفسِهما كأنَّهما قالتَا: إنَّا امرأتانِ ضعيفتانِ مستورتانِ لا نقدرُ على مُساجلةِ الرِّجالِ ومزاحمتِهم وما لنا رجلٌ يقومُ بذلكَ وأبُونا شيخٌ كبيرُ السنِّ قد أضعفَه الكبرُ فلابد لنا من تأخيرِ السَّقيِ إلى أنْ يقضي النَّاسُ أوطارَهم من الماءِ {فسقى لَهُمَا}.
رحمةً عليهما والكلامُ في حذفِ مفعولِه كما مرَّ آنِفًا. رُوي أنَّ الرُّعاةَ كانُوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حَجَرًا لا يُقلُّه إلا سبعةُ رجالٍ وقيل: عشرةُ وقيل: أربعون وقيل: مائةٌ فأقلَّه وحدَهُ مع ما كان به من الوصبِ والجراحةِ والجوعِ ولعلَّه عليه الصَّلاة والسَّلام زاحمَهم في السَّقيِ لهما فوضعُوا الحجرَ على البئرِ لتعجيزِه عليه الصَّلاة والسَّلام عن ذلكَ فإنَّ الظاهرَ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام غبَّ ما شاهدَ حالَهما سارعَ إلى السَّقيِ لهُما وقد رُوي أنَّه دفعهم عن الماءِ إلى أنْ سقى لهُما وقيل: كانت هناك بئرٌ أُخرى عليها الصَّخرةُ المذكورةُ.
ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سألَهم دَلْوًا من ماءٍ فأعطَوه دلوهُم وقالُوا: استقِ بها وكان لا ينزعُها إلا أربعون فاستقَى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبركةِ، ورَوى غنمَهما وأصدرَهما {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} الذي كانَ هُناك {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ} أيْ أيَّ شيءٍ أنزلتَهُ إليَّ {مّنْ خَيْرٍ} جلَّ أو قلَّ وحملَه الأكثرونَ على الطعامِ بمعونةِ المقامِ {فَقِيرٌ} أي محتاجٌ ولتضمُّنِه معنى السُّؤالِ والطَّلبِ جيءَ بلامِ الدعامةِ لتقويةِ العملِ، وقيل المَعنى لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ عظيمٍ هو خيرُ الدارينِ صرتُ فقيرًا في الدُّنيا لأنَّه كانَ في سَعَةٍ من العيشِ عندَ فرعونَ قاله عليه الصَّلاة والسَّلام إظهارًا للتبجحِ والشُّكرِ على ذلك. اهـ.