فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر. فقوله: {هذا من عمل الشيطان} معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفًا الله، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به {فاغفر لي} فاستره على هذا كله.
إذا سلم أنه كان نبيًا في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة: في قوله: {هذا من عمل الشيطان} دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله. ولقائل أن يقول: الشيطان من خلق الله فضلًا عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئًا آخر كما قررنا.
قوله: {بما أنعمت عليّ} قيل: أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أ، عمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظبًا على مثل تلك المعصية. وقال القفال: الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرمًا. وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى. وقال الكسائي والفراء: إنه خبر ومعناه الدعاء كأ، قال: فلا تجعلني ظهيرًا والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة. عن ابن عباس: أنه لم يستثن أي لم يقل. فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى. وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية، ولئن صحت فلعله اراد أن جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه، وبعد موت القبطي من الوكز {أصبح} موسى من غد ذلك اليوم {خائفًا يترقب} الأخبار وما يقال فيه {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد. فغويّ بمعنى غاوٍ. وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغوٍ لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء. قال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سببًا لظهور القتل ومزيد الخوف. وقال آخرون: بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله: {إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض} لا يليق إلا أن يكون قولًا للكافر. قال جار الله: الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل: هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل.
وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله: {وجاء رجل من أقصى المدينة} أي من ابعد مسافاتها إليه. وقوله: {يسعى} صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفًا. قال العلماء: الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفًا وفي يس أن يكون صلة، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلًا. والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بامره ومعنى {يأتمرون بك} يتشاورون بسببك. وقوله: {لك من الناصحين} كقوله: {فيه من الزاهدين} [يوسف: 20] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة. {فخرج منها خائفًا يترقب} المكروه من جهتهم وأن يلحق به {قال} ملتجئًا إلى الله {رب نجني من القوم الظالمين} وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنبًا وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}.
قد تقدّم الكلام في بلوغ الأشدّ في الأنعام، وقد قال ربيعة ومالك: هو الحلم لقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] الآية، وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان الثوري وغيرهما.
وقيل: الأشدّ ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين، والاستواء: من الثلاثين إلى الأربعين، وقيل: الاستواء هو بلوغ الأربعين، وقيل: الاستواء: إشارة إلى كمال الخلقة، وقيل: هو بمعنى واحد، وهو ضعيف؛ لأن العطف يشعر بالمغايرة {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} الحكم: الحكمة على العموم، وقيل: النبوّة.
وقيل: الفقه في الدين.
والعلم: الفهم، قاله السديّ.
وقال مجاهد: الفقه.
قال ابن إسحاق: العلم بدينه ودين آبائه، وقيل: كان هذا قبل النبوّة، وقد تقدّم بيان معنى ذلك في البقرة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أمّ موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم، والمراد العموم.
{وَدَخَلَ المدينة} أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى.
وقيل: مدينة غيرها من مدائن مصر، ومحل قوله: {على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} النصب على الحال إما من الفاعل، أي مستخفيًا، وإما من المفعول.
قيل: لما عرف موسى ما هو عليه من الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون، وفشا ذلك منه، فأخافوه، فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلاّ مستخفيًا.
قيل: كان دخوله بين العشاء والعتمة، وقيل: وقت القائلة.
قال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخل على حين علم منهم، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} أي ممن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أي من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} أي طلب منه أن ينصره، ويعينه على خصمه {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} فأغاثه؛ لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل.
قيل: أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي؛ ليحمل حطبًا لمطبخ فرعون، فأبى عليه، واستغاث بموسى {فَوَكَزَهُ موسى} الوكز: الضرب بجمع الكف، وهكذا اللكز واللهز.
وقيل: اللكز على اللحى، والوكز على القلب.
وقيل: ضربه بعصاه.
وقرأ ابن مسعود: {فلكزه} وحكى الثعلبي: أن في مصحف عثمان: {فنكزه} بالنون، قال الأصمعي: {نكزه} بالنون: ضربه، ودفعه.
قال الجوهري: اللكز الضرب على الصدر.
وقال أبو زيد: في جميع الجسد يعني: أنه يقال له: لكز، واللهز: الضرب بجميع اليدين في الصدر، ومثله عن أبي عبيدة {فقضى عَلَيْهِ} أي قتله، وكل شيء أتيت عليه، وفرغت منه: فقد قضيت عليه، ومنه قول الشاعر:
قد عضه فقضى عليه الأشجع

قيل: لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه، فأتى ذلك على نفسه، ولهذا قال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورًا بقتل الكفار.
وقيل: إن تلك الحالة حالة كفّ عن القتال لكونه مأمونًا عندهم، فلم يكن له أن يغتالهم.
ثم وصف الشيطان بقوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} أي: عدوّ للإنسان يسعى في إضلاله، ظاهر العداوة والإضلال.
وقيل: إن الإشارة بقوله: {هذا} إلى عمل المقتول لكونه كافرًا مخالفًا لما يريده الله.
وقيل: إنه إشارة إلى المقتول نفسه يعني: أنه من جند الشيطان وحزبه.
ثم طلب من الله سبحانه: أن يغفر له ما وقع منه: {قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ} الله {لَهُ} ذلك {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} ووجه استغفاره: أنه لم يكن لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر؛ لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به، ومعنى {فاغفر لِي} فاستر ذلك عليّ لا تطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادمًا على ذلك خائفًا من العقوبة بسببه، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح.
وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوّة.
وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سنّ التكليف، وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل.
ثم لما أجاب الله سؤاله، وغفر له ما طلب منه مغفرته، قال: {رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم والجواب مقدر أي: أقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ، وتكون جملة: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لّلْمُجْرِمِينَ} كالتفسير للجواب وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرمًا.
ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية متعلقة بمحذوف، أي اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ، ويكون قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} مترتبًا عليه، ويكون في ذلك استعطاف لله تعالى، وتوصل إلى إنعامه بإنعامه، وما في قوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ} إما موصولة، أو مصدرية، والمراد بما أنعم به عليه: هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع، وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في ظاهر الأمر، أو مظاهرته على ما فيه إثم.
قال الكسائي، والفراء: ليس قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لّلْمُجْرِمِينَ} خبرًا بل هو دعاء، أي فلا تجعلني يا ربّ ظهيرًا لهم.
قال الكسائي، وفي قراءة عبد الله: {فلا تجعلني يا ربّ ظهيرًا للمجرمين} وقال الفراء: المعنى: اللهم فلن أكون ظهيرًا للمجرمين.
وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أوفى وأشبه بنسق الكلام.
{فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي، و{خائفًا} خبر {أصبح} ويجوز أن يكون حالًا، والخبر: {في المدينة} و{يترقب} يجوز أن يكون خبرًا ثانيًا، وأن يكون حالًا ثانية، وأن يكون بدلًا من {خائفًا} ومفعول {يترقب} محذوف، والمعنى: يترقب المكروه أو يترقب الفرح {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} إذا هي الفجائية، والموصول مبتدأ، وخبره: {يستصرخه} أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطيًا آخر، أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس، والاستصراخ: الاستغاثة، وهو من الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوّت، ويصرخ في طلب الغوث، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ** كان الجواب له قرع الظنابيب

{قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} أي بين الغواية، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته، ولا تطيقه.
وقيل: إنما قال له هذه المقالة؛ لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر.
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما، وقد تقدّم معنى يبطش، واختلاف القراء فيه.
{قَالَ ياموسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس} القائل هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به، فقال لموسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس} فلما سمع القبطي ذلك أفشاه، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي، هكذا قال جمهور المفسرين.