فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
وصفته بالقوة لما شاهدت من كيفية السقي وبالأمانة لما حكينا من غض بصره حال ذودهما الماشية وحال سقيه لهما وحال مشيه بين يديها إلى أبيها.
المسألة الثانية:
إنما جعل {خَيْرَ مَنِ استأجرت} اسمًا و{القوى الأمين} خبرًا مع أن العكس أولى لأن العناية هي سبب التقديم.
المسألة الثالثة:
القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة، فلم أهمل أمر الكياسة؟ ويمكن أن يقال إنها داخلة في الأمانة، عن ابن مسعود رضي الله: أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف وأبو بكر في عمر.
أما قوله: {قَالَ إِنّى أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ} فلا شبهة في أن هذا اللفظ، وإن كان على الترديد لكنه عند التزويج عين ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين، فكانت الزيادة كالتبرع، والفقهاء ربما استدلوا به على أن العمل قد يكون مهرًا كالمال وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز، ولكنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا، ويدل على أنه قد كان جائزًا في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة، وعلى أنه كان جائزًا في تلك الشريعة نكاح المرأة بغير بدل تستحقه المرأة وعلى أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد، ثم قال: {على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ} تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيرًا وثماني حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه ومنه أجركم الله ورحمكم وثماني حجج مفعول به ومعناه رعية ثماني حجج ثم قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} وفيه وجهان: الأول: لا أريد أن أشق عليك بإلزام أثم الرجلين، فإن قيل ما حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر؟ قلنا حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين، تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه الثاني: لا أريد أن أشق عليك في الرعي ولكني أساهلك فيها وأسامحك بقدر الإمكان ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس، ومنه الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري.
ثم قال: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين}.
وفيه وجهان:
الأول: يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب.
والثاني: يريد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة، وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته.
فإن قيل فالعقد كيف ينعقد مع هذا الشرط، فإنك لو قلت امرأتي طالق إن شاء الله لا تطلق؟ قلنا هذا مما يختلف بالشرائع.
أما قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ}.
فاعلم أن ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب عليه السلام، يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعًا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك، ثم قال: {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي لا يعتدي عليَّ في طلب الزيادة أراد بذلك تقرير أمر الخيار يعني إن شاء هذا وإن شاء هذا ويكون اختيار الأجل الزائد موكولًا إلى رأيه من غير أن يكون لأحد عليه إجبار، ثم قال: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}.
مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ؛ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَنَافِعَهُ لَشُعَيْبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَشْرُطْ لَهَا مَهْرًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى وَشَرَطَ لِوَلِيِّهَا مَنَافِعَ الزَّوْجِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَشَرْطُهُ لِلْمَوْلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الَّتِي لَا يُوجِبُهَا الْعَقْدُ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَشْرُطَ لِلْوَلِيِّ مَنْفَعَةً.
وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْعُقُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِك} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَضَى مُوسَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَوْفَاهُمَا. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: يَا بُنَيَّةُ، هَذِهِ قُوَّتُهُ، فَمَا أَمَانَتُهُ؟ قَالَتْ: إنَّكَ لَمَّا أَرْسَلْتنِي إلَيْهِ قَالَ لِي: كُونِي وَرَائِي لِئَلَّا يَصِفَك الثَّوْبُ مِنْ الرِّيحِ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ، لَا أَنْظُرُ إلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا وَيَسَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {اسْتَأْجِرْهُ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَهُمْ وَعِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلِيقَةِ، وَمَصْلَحَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا لِلْأَصَمِّ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ حَيْثُ وَرَدَ فِي مَوَاضِعِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}.
اعْلَمُوا، عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ، وَحِفْظَ سَبِيلَ الِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، مَعَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ ذَكَرَهَا، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهَا، وَنَحْنُ نَحْلُبُ دَرَّهَا، وَنَنْظِمُ دُرَرَهَا، وَنَشُدُّ مِئْزَرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك} فِيهِ عَرْضُ الْمَوْلَى وَلِيَّتَهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ: عَرَضَ صَالِحُ مَدْيَنَ ابْنَتَهُ عَلَى صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَعَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَرَضَتْ الْمَوْهُوبَةُ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: فَلَقِيت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْت عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْت: إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ.
فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْت لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَلَّا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيت أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْت: إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يُرْجِعْ إلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْت عَلَيْهِ أَوْجَدُ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْت لَيَالِيَ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتهَا إيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّك وَجَدْت عَلِيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أُرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا، فَقُلْت: نَعَمْ، فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لَأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبِلْتهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَوْهُوبَةِ فَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: إنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ جِئْت أَهَبُ لَك نَفْسِي، فَرَأْيَك. فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى أَهْلِك فَانْظُرْ لَعَلَّك تَجِدُ شَيْئًا، فَذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا وَجَدْت شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنَّ هَذَا إزَارِي قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِك؟ إنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسْته لَمْ يَكُنْ عَلَيْك مِنْهُ شَيْءٌ» فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا قَالَ: تَقْرَأُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِك؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَفِي رِوَايَةٍ: «زَوَّجْتُكهَا» وَفِي أُخْرَى: «أَنْكَحْتُكهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمْكَنَّاكَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَكِنْ اُشْقُقْ بُرْدَتِي هَذِهِ، أَعْطِهَا النِّصْفَ وَخُذْ النِّصْفَ».
فَمِنْ الْحُسْنِ عَرْضُ الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ وَالْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِهَذَا السَّلَفِ الصَّالِحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ عَلَى لَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِكُلِّ لَفْظٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ.
وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً فِي شَيْءٍ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ حُجَّةً فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا أَنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَقَعَ، وَامْتِنَاعُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ النِّكَاحِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَقْتَضِيهِ بِظَاهِرِهَا، وَلَا يُنْظَرُ مِنْهَا؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ».
وَرُوِيَ: «أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ»، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ.
وَهَذَا نَصٌّ.
وَقَدْ رَامَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَجْعَلُوا انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِهِ تَعَبُّدًا، كَانْعِقَادِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَأْبَوْنَ مَا بَيْنَ الْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْأَمْرَ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ابْتِدَاؤُهُ بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ فِي قَوْلِهِ: {أُنْكِحُك} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي الْعَقْدِ، الْمُلْتَزِمُ لِلصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ، الْقَيِّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَصَاحِبُ الدَّرَجَةِ عَلَيْهَا فِي حَقِّ النِّكَاحِ.
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}.
فَبَدَأَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ زَيْنَبَ؛ وَهُوَ شَرْعُنَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرْضٌ لَا عَقْدٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَعَيَّنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ إذَا قَالَ لَهُ: بِعْتُك أَحَدَ عَبْدِي هَذَيْنِ بِثَمَنِ كَذَا فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْخِيَارِ يَلْصَقُ بِالنِّكَاحِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَيَّتَهُمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: الصُّغْرَى.
ثُمَّ قَالَ مُوسَى: لَا، حَتَّى تُبْرِئَهَا مِمَّا فِي نَفْسِك، يُرِيدُ حِينَ قَالَتْ: {إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} فَامْتَلَأَتْ نَفْسُ صَالِحَ مَدْيَنَ غَيْرَةً، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُرَاجَعَةٌ فِي الْقَوْلِ وَمُؤَانَسَةٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَرَفْعُهُ الْحَجَرَ مِنْ فَمِ الْبِئْرِ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا عَشْرَةُ رِجَالٍ، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَحِينَ مَشَيْت قَالَ لِي: كُونِي وَرَائِي، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَحِينَئِذٍ سَكَنَتْ نَفْسُهُ، وَتَمَكَّنَ أُنْسُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك} هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ إيجَابًا أَمْ لَا؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ، هَلْ يَكُونُ قَبُولًا؟ كَمَا إذَا قَالَ: بِعْنِي ثَوْبَك هَذَا.
فَقَالَ: بِعْتُك، هَلْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَمْ لَا؟ حَتَّى يَقُولَ الْآخَرُ قَبِلْت، عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَنْعَقِدُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الِاسْتِدْعَاءِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ مِنْ الرِّضَا بِهِ، عَلَى أَصْلِنَا؛ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَلْبِ هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ كَمَا وَقَعَ اللَّفْظُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُنْكِحَنِي، أَوْ أُنْكِحَك، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إيجَابًا حَاصِلًا؛ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ.