فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

الرابعة: قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء}.
في هذا الكلام اختصار يدلّ عليه هذا الظاهر؛ قدّره ابن إسحاق: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه وقيل الصغرى أن تدعوه له، {فَجَاءَتْ} على ما في هذه الآية.
قال عمرو ابن ميمون: ولم تكن سَلْفَعًا من النساء، خَرّاجة وَلاّجة.
وقيل: جاءته ساترة وجهها بكم دِرعها؛ قاله عمر بن الخطاب.
وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون هو شعيب عليه السلام.
وقيل: ابن أخي شعيب، وأن شعيبًا كان قد مات.
وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام، وهو ظاهر القرآن، قال الله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85] كذا في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 176 177] قال قتادة: بعث الله تعالى شعيبًا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين.
وقد مضى في الأعراف الخلاف في اسم أبيه.
فروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرّج موسى من النظر إليها فقال: ارجعي وأرشديني إلى الطريق بصوتك.
وقيل: إن موسى قال ابتداء: كوني ورائي فإني رجل عبرانيّ لا أنظر في أدبار النساء، ودلّيني على الطريق يمينًا أو يسارًا؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة؛ قاله ابن عباس.
فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوّله. إلى آخره فآنسه بقوله: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون.
وقرب إليه طعامًا فقال موسى: لا آكل؛ إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبًا؛ فقال شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قِرى الضيف، وإطعام الطعام؛ فحينئذٍ أكل موسى.
الخامسة: قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره} دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة، وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس؛ خلافًا للأصم حيث كان عن سماعها أصم.
السادسة: قوله تعالى: {إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} الآية.
فيه عرض الوليّ ابنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح.
قال ابن عمر: لما تأيّمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر؛ الحديث انفرد بإخراجه البخاري.
السابعة: وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الوليّ لا حظّ للمرأة فيه؛ لأن صالح مدين تولاه، وبه قال فقهاء الأمصار.
وخالف في ذلك أبو حنيفة.
وقد مضى.
الثامنة: هذه الآية تدلّ على أن للأب أن يزوّج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية، وهو ظاهر قويّ في الباب، واحتجاجه بها يدلّ على أنه كان يعوّل على الإسرائيليات؛ كما تقدّم.
وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوّجها أحد إلا برضاها؛ لأنها بلغت حدّ التكليف؛ فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوّجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا؛ بغير خلاف.
التاسعة: استدل أصحاب الشافعي بقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح.
وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه.
وقال علماؤنا في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ.
وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد؛ أما الشافعية فلا حجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم.
وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حيّ فقالوا: ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه؛ لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية، قالوا: فكذلك النكاح.
قالوا: والذي خصّ به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البُضْع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة، وتابعهم ابن القاسم فقال: إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئًا، وهو عندي جائز كالبيع.
قال أبو عمر: الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال.
وأيضًا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه، وهو ضدّ الطلاق فكيف يقاس عليه! وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقوله: أبحت لك وأحللت فكذلك الهبة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «استحللتم فروجهنّ بكلمة الله» يعني القرآن، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة، وإنما فيه التزويج والنكاح، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشرة: قوله تعالى: {إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} يدلّ على أنه عرض لا عقد؛ لأنه لو كان عقدًا لعيَّن المعقود عليها له؛ لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبديّ هذين بثمن كذا؛ فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح.
الحادية عشرة: قال مكيّ: في هذه الآية خصائص في النكاح؛ منها أنه لم يعين الزوجة ولا حدّ أوّل الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئًا.
قلت: فهذه أربع مسائل تضمنتها المسألة الحادية عشرة.
الأولى: من الأربع مسائل، قال علماؤنا: أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة، وإنما عرض الأمر مجملًا، وعيّن بعد ذلك.
وقد قيل: إنه زوّجه صفوريا وهي الصغرى.
يروى عن أبي ذرّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}».
قيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها؛ لأنه رآها في رسالته، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره.
وقيل غير هذا؛ والله أعلم.
وفي بعض الأخبار أنه تزوّج بالكبرى؛ حكاه القشيري.
الثانية: وأما ذكر أوّل المدّة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه؛ فإمّا رسماه، وإلا فهو من أوّل وقت العقد.
الثالثة: وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرّره شرعنا، وجرى في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن؛ رواه الأئمة؛ وفي بعض طرقه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تحفظ من القرآن» فقال: سورة البقرة والتي تليها؛ قال: «فعلمها عشرين آية وهي امرأتك» واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه ابن حبيب؛ وهو قول الشافعي وأصحابه؛ قالوا: يجوز أن تكون منفعة الحرّ صداقًا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن.
وقال أبو حنيفة: لا يصح؛ وجوّز أن يتزوّجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة؛ لأن العبد والدار مال، وليس خدمتها بنفسه مالًا.
وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز؛ لقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24].
وقال أبو بكر الرازي: لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان.
قال ابن القاسم: ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده.
وقال أصبغ: إن نقد معه شيئًا ففيه اختلاف، وإن لم ينعقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب؛ قاله مالك وابن الموّاز وأشهب.
وعوّل على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة؛ قال ابن خوَيْزِمَنْدَاد.
تضمّنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح، ويكره أن تجعل الإجارة مهرًا، وينبغي أن يكون المهر مالًا كما قال عز وجل: {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ} [النساء: 24].
هذا قول أصحابنا جميعًا.
الرابعة: وأما قوله: ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا؛ هل دخل حين عقد أم حين سافر؟ فإن كان حين عقد فماذا نقد؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار؛ قاله ابن القاسم.
فإن دخل قبل أن ينقد مضى، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب.
على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة؛ وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز وإن كان مدى العمر بغير شرط.
وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحًا مثل التأهب للبناء وانتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة؛ نصّ عليه علماؤنا.
الثانية عشرة: في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأوّل: قال في ثمانية أبي زيد: يكره ابتداء فإن وقع مضى.
الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده؛ لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة.
الثالث: أجازه أشهب وأصبغ.
قال ابن العربي: وهذا هو الصحيح وعليه تدلّ الآية؛ وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح.
فرع: وإن أصدقها تعليم شعر مباح صحّ؛ قال المزني: وذلك مثل قول الشاعر:
يقول العبد فائدتي ومالي ** وتقوى الله أفضل ما استفادا

وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرًا أو خنزيرًا.