فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{فجاءته إحداهما}.
قرأ ابن محيصن: فجاءته إحداهما، بحذف الهمزة، تخفيفًا على غير قياس، مثل: ويل امه في ويل أمه، ويابا فلان، والقياس أن يجعل بين بين، وإحداهما مبهم.
فقيل: الكبرى، وقيل: كانتا توأمتين، ولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار.
وعلى استحياء: في موضع الحال، أي مستحيية متحفزة.
قال عمر بن الخطاب: قد سترت وجهها بكم درعها؛ والجمهور: على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام، وهما ابنتاه.
وقال الحسن: هو ابن أخي شعيب، واسمه مروان.
وقال أبو عبيدة: هارون.
وقيل: هو رجل صالح ليس من شعيب ينسب.
وقيل: كان عمهما صاحب الغنم، وهو المزوج، عبرت عنه بالأب، إذ كان بمثابته.
{ليجزيك أجر ما سقيت لنا} في ذلك ما كان عليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملًا، وإن لم يقصد العالم المكافأة.
{فلما جاءه} أي فذهب معهما إلى أبيهما، وفي هذا دليل على اعتماد أخبار المرأة، إذ ذهب معها موسى، كما يعتمد على أخبارها في باب الرواية.
{وقص عليه القصص} أي ما جرى له من خروجه من مصر، وسبب ذلك.
{قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين} أي قبل الله دعاءك في قولك: {رب نجني من القوم الظالمين} أو أخبره بنجاته منهم، فأنسه بقوله: {لا تخف} وقرب إليه طعامًا، فقال له موسى: إنا أهل بيت، لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبًا، فقال له شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قري الضيف وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى عليه السلام.
{قالت إحداهما} أبهم القائلة، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة، {يا أبت استأجره} أي لرعي الغنم وسقيها.
ووصفته بالقوة: لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده، وانتزع بتلك الدلو، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء؛ وبالأمانة: لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها، فقال: ارجعي خلفي ودليني على الطريق.
وقولها كلام حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر، فقد تم المقصود، وهو كلام جرى مجرى المثل، وصار مطروقًا للناس، وكان ذلك تعليلًا للاستئجار، وكأنها قالت: استأجره لأمانته وقوته، وصار الوصفان منبهين عليه.
ونظير هذا التركيب قول الشاعر:
ألا إن خير الناس حيًا وهالكًا ** أسير ثقيف عندهم في السلاسل

جعل خير من استأجرت الاسم، اعتناء به.
وحكمت عليه بالقوة والأمانة.
ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها: ومن أين عرفت هذا؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح؛ وقاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم.
وقيل: قال لها موسى ابتداء: كوني ورائي، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينًا أو يسارًا.
قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله: {عسى أن ينفعنا} وأبو بكر في عمر.
وفي قولها: {استأجره} دليل على مشروعية الإجارة عندهم، وكذا كانت في كل ملة، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة، خلافًا لابن علية والأصم، حيث كانا لا يجيزانها؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع، وخلافهما خرق.
{قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} رغب شعيب في مصاهرته، لما وصفته به، ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة.
وقرأ ورش، وأحمد بن موسى، عن أبي عمرو: أنكحك إحدى، بحذف الهمزة.
وظاهر قوله: {أن أنكحَك} أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأ فيه، خلافًا لأبي حنيفة في بعض صوره، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود، وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج، وقد فعل ذلك عمر، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار، وبه قال مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغت البكر، فلا تزوج إلا برضاها.
قيل: وفيه دليل على قول من قال: لا ينعقد إلا بلفظ التزويج، أو الإنكاح، وبه قال ربيعة، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود.
وإحدى ابنتي: مبهم، وهذا عرض لا عقد.
ألا ترى إلى قوله: {إني أريد}؟ وحين العقد يعين من شاء منهما، وكذلك لم يحدّ أول أمد الإجارة.
والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة، وبه قال الشافعي وأصحابه وابن حبيب.
وقال الزمخشري: {هاتين} فيه دليل على أنه كانت له غيرهما. انتهى.
ولا دليل في ذلك، لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان، وجاءته إحداهما، فأشار إليهما، والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما.
{على أن تأجرني} في موضع الحال من ضمير أنكحك، إما الفاعل، وإما المفعول.
وتأجرني، من أجرته: كنت له أجيرًا، كقولك: أبوته: كنت له أبًا، ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسك.
و{ثماني حجج} ظرف، وقاله أبو البقاء.
وقال الزمخشري: حجج: مفعول به، ومعناه: رعيه ثماني حجج.
{فإن أتممت عشرًا فمن عندك} أي هو تبرع وتفضل لا اشتراط.
{وما أريد أن أشق عليك} بإلزام أيّم الأجلين، ولا في المعاشرة والمناقشة في مراعاة الأوقات، وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط.
{ستجدني إن شاء الله من الصالحين} وعد صادق مقرون بالمشيئة من الصالحين في حسن المعاملة ووطاءة الخلق، أو من الصالحين على العموم، فيدخل تحته حسن المعاملة.
ولما فرغ شعيب مما حاور به موسى، قال موسى: {ذلك بيني وبينك} على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثماني حجج.
وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك، إشارة إلى ما عاهده عليه، أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعًا لا نخرج عنه، ثم قال: {أيما الأجلين} أي الثماني أو العشر؟ {فلا عدوان عليّ} أي لا يعتدى عليّ في طلب الزيادة، وأي شرط، وما زائدة.
وقرأ الحسن، والعباس، عن أبي عمرو: أيما، بحذف الياء الثانية، كما قال الشاعر:
تنظرت نصرًا والسماكين أيما ** علي من الغيث استهلت مواطره

وقرأ عبد الله: أي الأجلين ما قضيت، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت.
قال الزمخشري فإن قلت: ما الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام، أي زائدة في شياعها وفي الشاذ، تأكيدًا للقضاء، كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له؟ وقرأ أبو حيوة، وابن قطيب: فلا عدوان، بكسر العين.
قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما، ولكن جمعهما، ليجعل الأول كالأتم في الوفاء.
وقال الزمخشري: تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر، وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعًا؟ قلت: معناه: كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر، كان عدوانًا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت في الزيادة على الثماني.
أراد بذلك تقرير الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأن الأجلين على السواء، إما هذا، وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء.
وأما التتمة فموكولة إلى رأيي، إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها.
وقيل: معناه فلا أكون متعديًا، وهو في نفي العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم عليّ ولا تبعة. انتهى، وجوابه الأول فيه تكثير.
{والله على ما نقول} أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا، {وكيل} أي شاهد.
وقال قتادة: حفيظ.
قال ابن شجرة: رقيب، والوكيل الذي وكل إليه الأمر، فلما ضمن معنى شاهد ونحوه عدى بعلى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا}.
قيل هي كُبراهما واسُمها صفُوراءُ أو صفراءُ وقيل: صُغراهما واسمُها صُفيراءُ أي جاءتْهُ عقيبَ ما رَجَعتا إلى أبيهما. رُوي أنَّهما لما رجعتَا إلى أبيهما قبلَ النَّاسِ وأغنامُهما حُفلٌ بطانٌ قال لُهما ما أعجلَكُما قالتَا وجدنَا رجلًا صالحًا رحمنَا فسقَىَ لنا فقالَ لإحداهُما اذهبي فادعيِه لي. وقولُه تعالى: {تَمْشِى} حالٌ من فاعل جاءتْ. وقوله تعالى: {عَلَى استحياء} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من ضميرِ تمشي أي جاءتْه تمشِي كائنةً على استحياءٍ فمعَناهُ أنَّها كانتْ على حالتي المَشي والمجيءِ معًا لا عندَ المجيءِ فقط. وتنكيرُ استحياءٍ للتفخيمِ، قيل جاءتْه متخفرةً أي شديدةَ الحياءِ وقيل قد استترتْ بكُمِّ دِرعِها {قَالَتْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيئِها إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ له عليه الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالتْ {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاءَ سقيكَ لنا أسندتِ الدَّعوةَ إلى أبيها وعلَّلتها بالجزاءِ لئلاَّ يُوهمَ كلامُها ريبةً. وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ العقلِ والحياءِ والعفَّةِ ما لا يخَفْى. رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أجابَها فانطلَقا وهي أمامه فألزقتِ الرِّيحُ ثوبَها بحسدِها فوصفتْهُ فقال لها أمشِي خلفي وانعَتي لي الطريقَ ففعلتْ حتَّى أتيا دارَ شُعيب عليهما السَّلامُ {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أي ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ فإنَّه مصدرٌ سُمِّيَ به المفعولُ كالعللِ.
{قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} الذي يلوحُ من ظاهرِ النَّظْمِ الكريمِ أنَّ موسى عليه السَّلام إنَّما أجابَ المستدعيةَ من غيرِ تلعثُمٍ ليتبرَّكَ برؤيةِ شعيبٍ عليه السَّلام ويستظهرَ برأيهِ لا يأخذَ بمعروفِه أجرًا حسبَما صرَّحتْ به. ألا يُرى إلى ما رُوي أنَّ شُعيبًا لما قدَّمَ إليه طعامًا قال إنَّا أهلُ بيتٍ لا نبيع ديننا بطِلاعِ الأرضِ ذهبًا ولا نأخذُ على المعروفِ ثمنًا ولم يتناولْ حتَّى قال شُعيبٌ عليه السَّلام: هذهِ عادتُنا مع كلِّ مَن ينزلُ بنا فتناولَ بعد ذلكَ على سبيلِ التقبلِ لمعروفٍ مُبتدأٍ كيف لا وقد قصَّ عليه قصصَهُ وعرَّفَهُ أنَّه من بيتِ النُّبوةِ من أولادِ يعقوبَ عليه السَّلامِ ومثله حَقيقٌ بأنْ يُضيَّفَ ويكرَّمَ لاسيما في دارِ نبيَ من أنبياءِ الله تعالى عليهم الصَّلاة والسَّلام وقيل ليس بمستنكرٍ منه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقبلَ الأجرَ لاضطرارِ الفقرِ والفاقةِ. وقد رُوي عن عطاءِ بن السَّائبِ أنَّه عليهِ السَّلامُ رفعَ صوتَهُ بدعائِه ليُسمَعها ولذلك قيلَ له ليجزَيك الخ ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما فعلَه ليكونَ ذريعة إلى استدعائِه لاستيفاء الأجرِ.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} وهي التي استدعتْهُ إلى أبيها وهي التي زوَّجها مِن موسى عليهما السَّلام {إِحْدَاهُمَا ياأبت استجره} أيْ لرعي الغنمِ والقيامِ بأمرِها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين} تعليلٌ جارٍ مجرى الدِّليلِ على أنَّه حقيقٌ بالاستئجارِ، وللمبالغةِ في ذلكَ جُعل خيرَ اسمًا لأنَّ، وذُكر الفعلُ على صيغةِ الماضي للدِّلالةِ على أنَّه أمينٌ مجرَّبٌ رُوي أنَّ شُعيبًا عليهِ السَّلامُ قال لهَا وما أعلمكِ بقوَّتِه وأمانتِه فذكرتْ ما شاهدتْ منه عليه السَّلام من إقلالِ الحجر ونزعِ الدَّلِو وأنَّه صوَّبَ رأسه حتَّى بلَّغتْهُ رسالتَه وأمَرها بالمشي خلفَهُ {قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى} أي تكونَ أجيرًا لي أو تثيبني من أجرتُ كذا إذا أثبتُه إيَّاه، فقولُه تعالى: {ثَمَانِىَ حِجَجٍ} على الأولِ ظرفٌ وعلى الثَّاني مفعولٌ به على تقديرِ مُضافٍ أي رِعيةَ ثماني حججٍ. ونُقل عن المبرِّدِ أنَّه يُقال أجرتُ داري ومملوكي غيرَ ممدودٍ وآجرتُ ممدودًا. والأولُ أكثرُ، فَعلَى هذا يكون المفعولُ الثَّاني محذوفًا والمعنى على أنْ تأجرنِي نفسَك، وقولُه تعالى: {ثماني حججٍ} ظرفٌ كالوجِه الأولِ: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} في الخدمةِ والعملِ {فَمِنْ عِندِكَ} أي فهوُ مِن عندك بطريقِ التَّفضلِ لا من عندِي بطريقِ الإلزامِ عليك. وهذا من شُعيبٍ عرضٌ لرأيه على مُوسى عليهما السَّلام واستدعاءٌ منه للعقدِ لا إنشاءٌ وتحقيقٌ له بالفعل. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بالزامِ إتمامِ العشرِ أو المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ واستيفاءِ الأعمالِ. واشتقاقُ المشقةِ من الشقِّ فإنَّ ما يصعبُ عليك يشقُّ عليك اعتقادُك في إطاقته ويوزعُ رأُيك في مزاولتِه. {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} في حُسنِ المعاملةِ ولينِ الجانبِ والوفاءِ بالعهدِ.