فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: وفي قوله: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} اكتفاء بشهادة الله عز وجل إذا لم يشهد أحدًا من الخلق فيدل على عدم اشتراط الإشهاد في النكاح. اهـ.
واستدل بها الأوزاعية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك بألف نقدًا أو ألفين نسيئة اه ما في الإكليل مع حذف قليل.
ولا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المقالات والمنازعات.
ثم إن ما تقدم عن مكي من أنه عليه السلام دخل ولم ينفذ شيئًا مما قاله غيره أيضًا.
وقد روى أيضًا من طريق الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنه عليه السلام لم يدخل حتى أتم الأجل، وجاء في بعض الآثار أنهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما السلام: ادخل ذلك البيت فخذ عصى من العصي التي فيه وكان عنده عصى الأنبياء عليهم السلام فدخل وأخذ العصا التي هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فقال له شعيب: خذ غير هذه فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنًا.
وعن عكرمة أنه قال: خرج آدم عليه السلام بالعصا من الجنة فأخذها جبرائيل عليه السلام بعد موته وكانت معه حتى لقى بها موسى ليلًا فدفعها إليه.
وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة أتاه بها جبرائيل عليه السلام لما توجه تلقاء مدين.
وقال السدي: كانت تلك العصا قد أودعها شعيبًا ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتي بعصا فدخلت وأخذت العصا فأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع: فأتاهما الملك فقال ألقياها فمن رفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يقطها ورفعها موسى عليه السلام.
وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضًا.
وعن الكلبي الشجرة التي نودي منها شجرة العوسج ومنها كانت عصاه.
وروى أنه لما شرع عليه السلام بالخدمة والرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينًا أخشاه عليك وعلى الغنم، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب وجد الغنم ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى عليه السلام بما كان ففرح وعلم أن لموسى العصا شأنًا وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع وردعاء فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع أو درعاء فوفى له شعيب بما قال.
وحكى يحيى بن سلام أنه جعل له كل سخلة تولد على خلاف شية أمها فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام في المنام أن ألق عصاك في الماء الذي تسقى منه الغنم ففعل فولدت كلها على خلاف شيتها.
وأخرج ابن ماجه والبزار وابن المنذر والطبراني وغيرهم من حديث عتبة السلمي مرفوعًا أنه عليه السلام لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة فأنمت وانثنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش أي واسعة الشخب ولا ضبوب أي طويلة الضرع تجره ولا غزور أي ضيقة الشخب ولا ثعول أي لا ضرع لها إلا كهيئة حلمتين ولا كمشة تفوت الكف أي صغيرة الضرع لا يدرك الكف وظاهر هذا الخبر أن الهبة كانت لزوجته عليه السلام وأنه كان ذلك لما أراد فراق شعيب عليهما السلام وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر ما تقدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}.
عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيّض شعيبًا أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته، فذلك يضمن له أنسًا في دار غربة ومأوى وعشيرًا صالحًا.
وتؤذن الفاء أيضًا بأن شعيبًا لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي صفورة فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل.
وذكر {تمشي} ليبني عليه قوله: {على استحياء} وإلا فإن فعل جاءته مغن عن ذكر {تمشي}.
و{على} للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف.
والمعنى: أنها مستحيية في مشيها، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة.
وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء.
والاستحياء مبالغة في الحياء مثل الاستجابة قال تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن إلى قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن} [النور: 31].
وجملة {قالت} بدل من جاءته.
وإنما بيّنت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام.
والجزاء: المكافأة على عمل حسن أو سيّىء بشيء مثله في الحسن أو الإساءة، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] وقال تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا} [سبأ: 17].
وتأكيد الجملة في قوله: {إن أبي يدعوك} حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به.
والأجر: التعويض على عمل نافع للمعوض، ومنه سمي ثواب الطاعات أجرًا، قال تعالى: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} [محمد: 36].
وانتصب {أجر ما سقيت لنا} على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير، وهو أن أراد ضيافته، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة.
والجزاء: إكرام، والإجارة: تعاقد.
ويدل لذلك قوله عقبه {قالت إحداهما يا أبت استأجره} [القصص: 26] فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى.
وكان فعل موسى معروفًا محضًا لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما، وكان فعل شعيب كرمًا محضًا ومحبة لقري كل غريب، وتضييف الغريب من سُنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام.
و{ما} في قوله: {ما سقيت لنا} مصدرية، أي سقيك، ولام {لنا} لام العلة سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ.
كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قصّ موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب.
وذلك يقتضي أن شعيبًا سأله عن سبب قدومه، و{القصص} الخبر.
و{قص عليه} أخبره.
والتعريف في {القصص} عوض عن المضاف إليه، أي قصصه، أو للعهد، أي القصص المذكور آنفًا.
وتقدم نظيره في أول سورة يوسف.
فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدْين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة.
ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون.
وجملة {نجوت من القوم الظالمين} تعليل للنهي عن الخوف.
ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقًا لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصًا عن قتل خطأ.
وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)}.
حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه، وانتقل منه إلى عَرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته.
والتاء في {أبت} عوض عن ياء المتكلم في النداء خاصة وهي يجوز كسرها وبه قرأ الجمهور.
ويجوز فتحها وبه قرأ ابن عامر وأبو جعفر.
وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره، أي لأن مثله من يستأجر.
وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلًا لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف، فالتعريف باللام في {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم.
والخطاب في {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلًا.
فالتقدير: من استأجر المستأجر.
و{من} موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين.
وجعل {خير من استأجرت} مسندًا إليه بجعله اسمًا لأن جعل {القوي الأمين} خبرًا مع صحة جعل {القوي الأمين} هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه {خير} وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة {استأجره} فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفسُ السامع أشد ترقبًا لحاله.
ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفًا المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتًا للحكم بدليل.
فتقدير معنى الكلام: استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين.
فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز.
وعن عمر بن الخطاب أنه قال أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي.
يريد: أسأله أن يؤيدني بقوي أمين أستعين به.
والإشارة في قوله: {هاتين} إلى المرأتين اللتين سقى لهما أن كانتا حاضرتين معًا دون غيرهما من بنات شعيب لتعلق القضية بشأنهما، أو تكون الإشارة إليهما لحضورهما في ذهن موسى باعتبار قرب عهده بالسقي لهما إن كانت الأخرى غائبة حينئذ.
وفيه جواز عرض الرجل مولاته على من يتزوجها رغبة في صلاحه.
وجعل لموسى اختيار إحداهما لأنه قد عرفها وكانت التي اختارها موسى صفورة وهي الصغرى كما جاء في رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اختارها دون أختها لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها وكلامها فكان ذلك ترجيحًا لها عنده.
وكان هذا التخيير قبل انعقاد النكاح، فليس فيه جهل المعقود عليها.
وقوله: {على أن تأجرني ثماني حجج} حرف {على} من صيغ الشرط في العقود.
و{تأجرني} مضارع آجره مثل نصره إذا كان أجيرًا له.
والحجج: اسم جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة، مشتقة من اسم الحج لأن الحج يقع كل سنة وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة العربية.