فصل: (سورة القصص: الآيات 5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة القصص: الآيات 5- 6]:

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)}.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} وعطفه على {نَتْلُوا} و{يَسْتَضْعِفُ} غير سديد؟ قلت: هي جملة معطوفة على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} عَلا فِي الْأَرْضِ لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصا له. وَنُرِيدُ: حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالا من يستضعف، أى يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن نمنّ عليهم. فإن قلت: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة اللّه المنة عليهم؟ وإذا أراد اللّه شيئا كان ولم يتوقف إلى وقت آخر، قلت: لما كانت منة اللّه بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم أَئِمَّةً مقدّمين في الدين والدنيا، يطأ الناس أعقابهم. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد رضى اللّه عنه: دعاة إلى الخير، وعن قتادة رضى اللّه عنه: ولاة، كقوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}. {الْوارِثِينَ} يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم. مكن له: إذا جعل له مكانا يقعد عليه أو يرقد، فوطأه ومهده ونظيره: أرّض له. ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام: أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث عليهم، كما كانت في أيام الجبابرة، وينفذ أمرهم، ويطلق أيديهم ويسلطهم.

.[سورة القصص: آية 7]:

{وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}.
اليم: البحر. قيل: هو نيل مصر. فإن قلت: ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت: أما الأوّل فالخوف عليه من القتل، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه. وأما الثاني، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان، وغير ذلك من المخاوف. فإن قلت: ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت: الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع. والحزن: غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به، فنهيت عنهما جميعا، وأو منت بالوحي إليها، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسرورا: وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين. وروى: أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد. وروى: أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبك اليوم، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها، ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون، ولكنى وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يلقوا شيئا، فخرجوا وهي لا تدرى مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل اللّه النار عليه بردا وسلاما، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى اللّه إليها فألقته في اليم. وقد روى أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي مطلى بالقار من داخله.

.[سورة القصص: آية 8]:

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)}.
اللام في {لِيَكُونَ} هي لام كى التي معناها التعليل، كقولك: جئتك لتكرمنى سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا، ولكن: المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك: ضربته ليتأدّب. وتحريره: أن هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد. وقرئ: {وحزنا} وهما لغتان: كالعدم والعدم {كانُوا خاطِئِينَ} في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدّوهم ببدع منهم. أو كانوا مذنبين مجرمين، فعاقبهم اللّه بأن ربى عدوّهم- ومن هو سبب هلاكهم- على أيديهم. وقرئ: {خاطين} تخفيف خاطئين، أو خاطين الصواب إلى الخطأ.

.[سورة القصص: آية 9]:

{وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)}.
روى أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه، فلم يقدروا عليه، فعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا، فعالجته ففتحته، فإذا بصبىّ نوره بين عينيه وهو يمصّ إبهامه لبنا فأحبوه، وكانت لفرعون بنت برصاء، وقالت له الأطباء: لا تبرأ إلا من، قبل البحر، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت. وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت، فقالت: إن هذه لنسمة مباركة، فهذا أحد ما عطفهم عليه، فقال الغواة من قومه: هو الصبى الذي نحذر منه، فأذن لنا في قتله، فهمّ بذلك فقالت آسية {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقال فرعون: لك لا لي. وروى في حديث: «لو قال هو قرّة عين لي كما هو لك، لهداه اللّه كما هداها» وهذا على سبيل الفرض والتقدير، أى: لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها، ولأسلم كما أسلمت: هذا- إن صح الحديث- تأويله، واللّه أعلم بصحته.
وروى أنها قالت له: لعله من قوم آخرين ليس من بنى إسرائيل. {قرّة عين} خبر مبتدإ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ و{لا تَقْتُلُوهُ} خبرا، ولو نصب لكان أقوى. وقراءة ابن مسعود رضى اللّه عنه دليل على أنه خبر، قرأ: {لا تقتلوه قرّة عين لي ولك} بتقديم {لا تَقْتُلُوهُ}.
{عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نافعا أو نتبناه، فإنه أهل للتبنى، ولأن يكون ولدا لبعض الملوك. فإن قلت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} حال، فما ذو حالها؟ قلت: ذو حالها آل فرعون. وتقدير الكلام: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله: {إن فرعون} الآية: جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، مؤكدة لمعنى خطئهم. وما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم.

.[سورة القصص الآيات: 10- 11]:

{وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)}.
{فارِغًا} صفرا من العقل. والمعنى: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش. ونحوه قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} أى جوّف لا عقول فيها ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى ** فأنت مجوّف نخب هواء

وذلك أنّ القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها} ويدل عليه قراءة من قرأ: {فرغا} وقرئ: {قرعا} أى خاليا من قولهم: أعوذ باللّه من صفر الإناء وقرع الفناء. وفرغا، من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ، أى هدر، يعنى: بطل قلبها وذهب، وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها {لَتُبْدِي بِهِ} لتصحر به. والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته، وأنه ولدها {لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها} بإلهام الصبر، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من المصدقين بوعد اللّه، وهو قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} ويجوز: وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت، لولا أنا طامنا قلبها وسكنّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد اللّه لا بتبني فرعون وتعطفه. وقرئ: {مؤسى} بالهمزة: جعلت الضمة في جارة الواو- وهي الميم- كأنها فيها، فهمزت كما تهمز واو وجوه قُصِّيهِ اتبعى أثره وتتبعى خبره. وقرئ: {فبصرت} بالكسر- يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة، بمعنى: عن بعد. وقرئ: {عن جانب} و{عن جنب} والجنب: الجانب. يقال: قعد إلى جنبه وإلى جانبه، أى: نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة. وهم لا يحسون بأنها أخته، وكان اسمها مريم.

.[سورة القصص الآيات: 12- 13]:

{وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)}.
التحريم: استعارة للمنع لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه. ألا ترى إلى قولهم: محظور وحجر، وذلك لأن اللّه منعه أن يرضع ثديا، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط، حتى أهمهم ذلك.
و{المراضع} جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع. أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع يعنى الثدي أو الرضاع {مِنْ قَبْلُ} من قبل قصصها أثره. روى أنها لما قالت {وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ} قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد، فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها والصبىّ على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكى يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: إنى امرأة طيبة الريح طيبة اللبن، لا أوتى بصبى إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز اللّه وعده في الردّ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبيا. وذلك قوله: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يريد. وليثبت علمها ويتمكن. فإن قلت: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟.
قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربىّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة. وقوله: {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} داخل تحت علمها. المعنى: لتعلم أن وعد اللّه حق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون. ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى، فجزعت وأصبح فؤادها فارغا يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها: يا أم موسى، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجرى، ثم ذهبت فتوليت قتله، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت: وقع في يد العدوّ، فنسيت وعد اللّه. ويجوز أن يتعلق وَلكِنَّ بقوله: {وَلِتَعْلَمَ} ومعناه: أن الرّد إنما كان لهذا الغرض الديني، وهو علمها بصدق وعد اللّه. ولكنّ الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلى الذي ما سواه تبع له: من قرّة العين وذهاب الحزن.