فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمرا معلوما، ولعلّ ذلك كان جائزا في تلك الشريعة. ويجوز أن يكون المهر شيئا آخر، وإنما أراد أن يكون راعى غنمه هذه المدّة، وأراد أن ينكحه ابنته، فذكر له المرادين، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى: إنى أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة. ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه، ثم ينكحه ابنته به، ويجعل قوله عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ عبارة عما جرى بينهما {فَإِنْ أَتْمَمْتَ} عمل عشر حجج {فَمِنْ عِنْدِكَ} فإتمامه من عندك. ومعناه: فهو من عندك لا من عندي، يعنى: لا ألزمكه ولا أحتمه عليك، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع، وإلا فلا عليك {وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزام أتمّ الأجلين وإيجابه. فإن قلت: ما حقيقة قولهم: شققت عليه، وشق عليه الأمر؟ قلت: حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين، تقول تارة: أطيقه، وتارة: لا أطيقه. أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعى غنمه، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين، من المناقشة في مراعاة الأوقات، والمداقة في استيفاء الأعمال، وتكليف الرعاة أشغالا خارجة عن حدّ الشرط، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس. ومنه الحديث «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شريكي، فكان خير شريك لا يدارى ولا يشارى ولا يماري» وقوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يدل على ذلك، يريد بالصلاح: حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب. ويجوز أن يريد الصلاح على العموم.
ويدخل تحته حسن المعاملة، والمراد باشتراط مشيئة اللّه فيما وعد من الصلاح: الاتكال على توفيقه فيه ومعونته، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء اللّه، وإن شاء استعمل خلافه ذلِكَ مبتدأ، وبَيْنِي وَبَيْنَكَ خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب، يريد. ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتنى عليه قائم بيننا جميعا، لا نخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت علىّ ولا أنت عما شرطت على نفسك. ثم قال: أى أجل من الأجلين قضيت: أطولهما الذي هو العشر، أو أقصرهما الذي هو الثمان فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أى لا يعتدى علىّ في طلب الزيادة عليه. فإن قلت: تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ قلت: معناه كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت مستقرّ، وأن الأجلين على السواء: إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيى: إن شئت أتيت بها، وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعدّيا، وهو في نفى العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم علىّ، ولا تبعة علىّ. وفي قراءة ابن مسعود: أى الأجلين ما قضيت. وقرئ: أيما، بسكون الياء، كقوله:
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما ** علىّ من الغيث استهلّت مواطره

وعن ابن قطيب: عدوان، بالكسر. فإن قلت: ما الفرق بين موقعى ما المزيدة في القراءتين؟
قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، أىّ: زائدة في شياعها: وفي الشاذة تأكيدا للقضاء، كأنه قال: أى الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له. الوكيل: الذي وكل إليه الأمر، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت، عدى بعلى لذلك. روى أنّ شعيبا كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصى. فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب، فمسها- وكان مكفوفا، فضنّ بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلم أنّ له شأنا. وقيل:
أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا. وقيل: أودعها شعيبا ملك في صورة رجل، فأمر بنته أن تأتيه بعصا، فأتته بها فردها سبع مرّات فلم يقع في يدها غيرها، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة، فتبعه فاختصما فيها، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع، فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى.
وعن الحسن: ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا. وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج، ومنها كانت عصاه. ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر، إلا أنّ فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام فإذا بالتنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية. فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا، وقال له: إنى وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء، فأوحى إليه في المنام: أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء، فوفى له بشرطه. اهـ.

.قال ابن جزي:

{عَلاَ فِي الأرض}.
أي تكبر وطغا {شِيَعًا} أي فرقًا مختلفين، فجعل فرعون القبطَ ملوكًا وبني إسرائيل خُدامًا علهم، وهم الطائفة الذين استضعفهم، وأراد الله أن يمنّ عليهم ويجعلهم أئمة: أي ولاة في الأرض أرض فرعون وقومه.
{وَهَامَانَ} وهو وزير فرعون {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} اختلف هل كان هذا الوحي بإلهام أو منام أو كلام بواسطة الملك، وهذا أظهر لثقتها بما أوحى إليها وامتثالها ما أمرت به {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} أي إذا خفت عليه أن يذبحه فرعون؛ لأن كان يذبح أبناء بني إسرائيل، لما أخبره الكهان أن هلاكه على يد غلام منهم {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} الالتقاط اللقاء من غير قصد، رُوي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت في البحر، وهو النيل فأمرت أن يساق لها، ففتحته فوجدت فيه صبيًا فأحبته، وقالت لفرعون: هذا قرّة عين لي ولك {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} اللام لام العاقبة وتسمى أيضًا لام الصيرورة {لاَ تَقْتُلُوهُ} روي أن فرعون همّ بذبحه، إذ توسم أنه من بني إسارئيل، فقالت امرأته لا تقتلوه {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي لا يشعرون أن هلاكهم يكون على يديه، والضمير الفاعل لفرعون وقومه.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغًا} أي ذاهلًا لا عقل معها، وقيل: فارغًا من الصبر وقيل: فارغًا من كل شيء إلا من همّ موسى، وقيل: فارغًا من وعد الله: أي نسيت ما أوحى إليها، وقيل: فارغًا من الحزن إذ لم يغرق، وهذا بعيد لما بعده. وقيل: فارغًا من كل شيء إلا من ذكر الله، وقرىء فزعًا بالزاي من الفزع {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي تظهر أمره، وفي الحديث كادت أمّ موسى أن تقول وابناه وتخرج صائجة على وجهها {رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} أي رزقناها الصبر {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي من المصدّقين بالوعد الذي وعدها الله.
{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي ابتعيه، والقص طلب الأثر، فخرجت أخته تبحث عنه في خفية {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} أي رأته من بعيد، ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته، وقيل معنى عن جنب؛ عن شوق إليه، وقيل: معناه أنها نظرت إليه، كأنها لا تريده {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي لا يشعرون أنها أخته.
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} أي منع بأن بغضها الله له، والمراضع جمع مرضعة، وهي المرأة التي ترضع، أو جمع مرضع فتح الميم والضاد: وهو موضع الرضاع يعني الثدي {مِن قَبْلُ} أي من أول مرة {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ} القائلة أخته تخاطب آل فرعون {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ} لما منعه الله من المراضع وقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ} الآية: جاءت بأمه فقبل ثديها، فقال لها فرعون ومن أنت منه بذلكَ، وعلمت أن وعد الله حق في قوله: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] {بَلَغَ أَشُدَّهُ} ذكر في [يوسف: 22] {واستوى} أي كمل عقله، وذلك من الأربعين سنة.
{وَدَخَلَ المدينة} يعني مصر وقيل: قرية حولها، والأول أشهر {على حِينِ غَفْلَةٍ} قيل: في القائلة وقيل بين العشاءين، وقيل يوم عيد، وقيل كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفيًا متخوفًا {هذا مِن شِيعَتِهِ} الذي من شعيته من بني إسرائيل، والذي من عدوّه من القبط {فَوَكَزَهُ موسى} أي ضربه، والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل: بجمع الكف {فقضى عَلَيْهِ} أي قتله، ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم وقال: هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان، ثم اعترف واستغفر فغفر الله له، فإن قيل: كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافرًا؟ فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله، ولذلك يقول يوم القيامة: إني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها.
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} الظهير المعين، والباء سببية، والمعنى بسبب إنعامك عليّ: لا أكون ظهيرًا للمجرمين، فهي معاهدة عاهد موسى عليها ربه، وقيل الباء باء القسم، هذا ضعيف لأن قوله: {فَلَنْ أَكُونَ} لا يصلح لجواب القسم، وقيل: جواب القسم محذوف تقديره: وحق نعمتك لأتوين {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} وقيل الباء للتحليف: أي اعصمني بحق نعمتك عليّ، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} ويحتج بهذه الآية على المنع من صحبة ولاة الجور.
{يَتَرَقَّبُ} في الموضعين أي يستحس هل يطلبه أحد {يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيث به، لقي موسى الإسرائيليَّ الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل رجلًا آخر في من القبط، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس، فعظم ذلك على موسى وقال له: إنك لغوي مبين {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} الضمير في {أَرَادَ} في يبطش لموسى، وفي قال للإسرائيلي، والمعنى لما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ له للإِسرائيلي، ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به إذ قال له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فقال الإسرائيلي لموسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس}؟ وقيل: الضمير في أراد للإسرائيلي، والمعنى فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى بالقبطي، ولم يفعل موسى ذلك لندامته على قتله الآخر بالأمس، فنصح الإسرائيلي، فقال له: أتريد أن تقتلني فاشتهر خبر قتله للآخر إلى أن وصل إلى فرعون.
{وَجَاءَ رَجُلٌ} قيل: إنه مؤمن آل فرعون، وقيل: غيره {يسعى} أي يسرع في مشيه ليدرك موسى فينصحه {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون: وقيل: يأمر بعضهم بعضًا بقتلك كما قتلت القبطي.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي مدينة شعيب عليه السلام {قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السبيل} أي وسط الطريق يعني طريق مدين، إذ كان قد خرج فارًّا بنفسه، وكان لا يعرف الطريق، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، وقيل: أراد سبيل الهدى وهذا أظهر، ويدل كلامه هذا على أنه كان عارفًا بالله قبل نبوته.