فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي موضع آخر لهذه القصة لم يذكر قوله تعالى: {قَالَ لأَهْلِهِ} [القصص: 29] وهذا من المآخذ التي يأخذها السطحيون على أسلوب القرآن، لكن بتأمل الموقف نرى أنه أخذ صورة المحاورة بين موسى وأهله.
فزوجة وزوجها ضَمَّهما الظلام في مكان موحش، لا يعرفون به شيئًا، ولا يهتدون إلى طريق، والجو شديد البرودة، فمن الطبيعي حين يقول لها: إني رأيت نارًا سأذهب لأقتبس منها أن تقول له: كيف تتركني وحدي في هذا المكان؟ فربما تضلّ أنت أو أضلّ أنا، فيقول لها {امكثوا} [القصص: 29] إذن: لابد أن هذه العبارة تكررتْ على صيغتين كما حكاها القرآن الكريم.
كذلك في: {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] وفي مرة أخرى {لعلي آتِيكُمْ} [القصص: 29] قالوا: لأنه لما رأى النار قال: {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] على وجه اليقين، لكن لما راجع نفسه، فربما طفئت قبل أن يصل إليها استدراك، فقال: {لعلي آتِيكُمْ} [القصص: 29] على سبيل رجاء غير المتيقن. {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي}.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يريد أنْ يعطينا خريطة تفصيلية للمكان، فهناك مَنْ قال: من جانب الطور، والجانب الأيمن من الطور. وهنا: {مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30].
ومضمون النداء: {ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 30] سمع موسى هذا النداء يأتيه من كل نواحيه، وينساب في كل اتجاه؛ لأن الله تعالى لا تحيزه جهة؛ لذلك لا تقُلْ: من أين يأتي الصوت؟ وليس له إِلْفٌ بأن يخاطبه الرب- تبارك وتعالى.
ومع النداء يرى النار تشتعل في فرع من الشجرة، النار تزداد اشتعالًا، والشجرة تزداد خضرة، فلا النار تحرق الشجرة بحرارتها، ولا الشجرة تُطفيء النار برطوبتها. فهي- إذن- مسألة عجيبة يحَارُ فيها الفكر، فهل يستقبل كُلَّ هذه العجائب بسهولة أم لابد له من مراجعة؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ}.
وفي موضع آخر يسأله ربه ليُؤنسه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] وقلْنا: إن موسى- عليه السلام- أطال في هذا الموقف ليطيل مُدَّة الأُنْس بربه، فلما أحسَّ أنه أسرف وأطال قال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] فأطنب أولًا ليزداد أُنْسه بربه، ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه.
أما هنا فيأتي الأمر مباشرة ليُوظِّف العصا: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص: 31].
وقوله: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص: 31] لأنه رأى عجيبة أخرى أعجب مما سبق فلو سلَّمنا باشتعال النار في خُضْرة الشجرة، فكيف نُسلِّم بانقلاب العصا جانًا يسعى ويتحرك؟
وكان من الممكن أنْ تنقلبَ العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا، وتكون أيضًا معجزة، أما أنْ تتحول إلى جنس آخر، وتتعدَّى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة، فهذا شيء عجيب غير مألوف.
وهنا كلام محذوف؛ لأن القرآن الكريم مبنيٌّ على الإيجاز، فالتقدير: فألقى موسى عصاه {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِرًا} [القصص: 31] ذلك ليترك للعقل فرصة الاستنباط، ويُحرِّك الذِّهْن لمتابعة الأحداث.
والجانُّ، قُلْنا هو فرخ الحية، وقد صُوِّرَتْ العصا في هذه القصة بأنها: جانٌّ، وثعبان، وحية. وهي صورة ثلاثة للشيء الواحد، فهي في خفَّتِها جانٌّ، وفي طولها ثعبان، وفي غِلَظها حية.
ومعنى {ولى مُدْبِرًا} [القصص: 31] يعني: انصرف خائفًا، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص: 31] لم يلتفت إلى الوراء، فناداه ربه: {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} [القصص: 31] يعني: ارجع ولا تخَفْ من شيء، ثم يعطيه القضية التي يجب أن تصاحبه في كل تحركاته في دعوته {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31] فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك في هذا الموقف إنما {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31].
يعني: هي قضية مستمرة ملازمة لك؛ لأنك في مَعيّة الله، ومَنْ كان في معية الله لا يخاف، وإلا لو خِفْتَ الآن، فماذا ستفعل أمام فرعون.
وهكذا يعطي الحق- سبحانه وتعالى- لموسى- عليه السلام- دُرْبة معه سبحانه، ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته والملأ جميعًا دُرْبة مع سبحانه، ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته والملأ جميعًا دون خوف ولا وَجَل، وليكون على ثقة من نصر الله وتأييده في جولته الأخيرة أمام فرعون.
وقد انتفع موسى- عليه السلام- بكل هذه المواقف، وتعلَّم من هذه العجائب التي رآها فزادتْه ثقةً وثباتًا؛ لذلك لما كاد فرعون أنْ يلحقَ بجنوده موسى وقومه، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] استعاد موسى عليه السلام قضية {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31] فقال بملء فيه: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فحيثية الثقة عند موسى- عليه السلام- هي معيّة الله له، قالها موسى، ويمكن أنْ تكذب في وقتها حالًا، فهاجم البحر من أمامهم، وفرعون من خلفهم، لكنها ثقة مَنْ أمَّنه الله، وجعله في معيَّته وحِفْظه.
وهذا الأمن قد كفله الله تعالى لجميع أنبيائه ورسله، فقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171- 173].
وقال: {ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [النمل: 10].
وقد قُصَّ هذا كله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فانتفع به ووثق في نصر الله، فلما قال له الصِّديق وهما في الغار: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميْه لرآنَا، قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين، الله ثالثهما».
وحكى القرآن قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] وما دُمْنا في معيَّة مَنْ لا تدركه الأبصار، فلن تدركنا الأبصار.
ثم ينقل الحق- تبارك- وتعالى- موسى عليه السلام إلى آية أخرى تضاف إلى معجزاته: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}.
معنى {اسلك يَدَكَ} [القصص: 32] يعني: أدخلها {فِي جَيْبِكَ} [القصص: 32] الجيب: فتحة الثوب من أعلى، وسَمَّوْها جَيْبًا؛ لأنهم كانوا يجعلون الجيوب مكان حِفْظ الأموال في داخل الثياب حتى لا تُسرق، فكان الواحد يُدخِل يده في قبَّة الثوب لتصل إلى جيبه.
ونلحظ هنا دقة الأداء القرآني {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [القصص: 32] ولم يقُلْ بصيغة الأمر: وأخرجها كما قال: {اسلك يَدَكَ} [القصص: 32] وكأن العملية عملية آلية منضبطة بدقة، فبمجرد أن يُدخِلها تخرج هي بيضاء، فكأن إرادته على جوارحه كانت في الإدخال، أما في الإخراج فهي لقدرة الله.
وكلمة {بَيْضَاءَ} [القصص: 32] أي: مُنوّرة دون مرض، والبياض لابد أن يكون عجيبًا في موسى- عليه السلام- لأنه كان أسمر اللون؛ لذلك قال: {مِنْ غَيْرِ سواء} [القصص: 32] حتى لا يظنوا به بَرصًا مثلًا، فهو بياض طبيعي مُعْجِز.
وقوله تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] الجناحان في الطائر كاليدين في الإنسان، وإذا أراد الإنسان أن يعوم مثلًا يفعل كما يفعل الطائر حين يطير، فالمعنى: اضمُمْ إليك يديك يذهب عنك الخوف.
وهذه العملية يُصدِّقها الواقع، فنرى المرأة حين ترى ولدها مثلًا يسئ التصرف تضرب صَدْرها وتولول، وسيدنا ابن عباس يقول: كل من خاف يجب عليه أن يضرب صدره بيديه ليذهب عنه ما يلاقي، ولك أن تُجرِّبها لتعلم صِدْق هذا الكلام.
ومعنى {فَذَانِكَ} [القصص: 32] ذا: اسم إشارة للمفرد ونقول: ذان اسم إشارةت للمثنى، والكاف للخطاب، والمراد: الإشارة لمعجزتي العصا واليد {بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} [القصص: 32] أي ربك الحق {إلى فِرْعَوْنَ} [القصص: 32] الرب الباطل، ولا يمكن أنْ يجتمع الحق والباطل، لابد للباطل أنْ يزهق؛ لأنه ضعيف لا يصمد أمام قوة الحق {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
والبرهان: هو الحجة والدليل على صِدْق المبرهَن عليه {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32] لأن فرعون ادَّعى الألوهية، وملؤه استخفهم فأطاعوه {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] أي: جميعًا فرعون والملأ {فَاسِقِينَ} [القصص: 32] أي: خارجين عن الطاعة من قولنا فسقتِ الرُّطَبة يعني: خرجتْ من قشرتها.
والمراد هنا الحجاب الديني الذي يُغلِّف الإنسان، ويحميه ويعصمه أنْ يتأثر بعوامل المعصية، فإذا انسلخ من هذا الثوب، ونزع هذا الحجاب، وتمرَّد على المنهج تكشفتْ عورته، وبانتْ سَوْءَته. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء}.
في الكلام حذف يدل عليه السياق.
قال الزجاج: تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدّثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه، وقيل: الصغرى أن تدعوه له، فجاءته.
وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب، وقيل: هما ابنتا أخي شعيب، وأن شعيبًا كان قد مات.
والأوّل أرجح، وهو ظاهر القرآن.
ومحلّ {تَمْشِي} النصب على الحال من فاعل جاءت، {وعلى استحياء} حال أخرى، أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط، وجملة: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالت له لما جاءته؟ {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاء سقيك لنا {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} القصص مصدر سمي به المفعول أي: المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطيّ إلى عند وصوله إلى ماء مدين {قَالَ} شعيب: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} أي فرعون وأصحابه؛ لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة جدًّا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عزّ وجلّ، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلًا عن الكامل، وأشفّ ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي.
ويجاب عنه: بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبيّ من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدّم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبًا.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره} القائلة هي التي جاءته، أي استأجره ليرعى لنا الغنم، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة.
وقد اتفق على جوازها، ومشروعيتها جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصمّ، وجملة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استئجرت القوى الأمين} تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى، أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعًا بين خصلتي القوّة والأمانة.
وقد تقدّم في المرويّ عن ابن عباس، وعمر: أن أباها سألها عن وصفها له بالقوّة والأمانة فأجابته بما تقدّم قريبًا: {قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} فيه مشروعية عرض وليّ المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوّة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي على أن تكون أجيرًا لي ثماني سنين.
قال الفراء: يقول: على أن تجعل ثوابي أن ترعى غنمي ثماني سنين، ومحل: {على أَن تَأْجُرَنِي} النصب على الحال، وهو مضارع أجرته، ومفعوله الثاني محذوف، أي نفسك و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ظرف.
قال المبرد: يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدودًا، والأوّل أكثر {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك، أي تفضلًا منك لا إلزامًا مني لك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام، موكولًا إلى المروءة.
ومحل {فَمِنْ عِندِكَ} الرفع على تقدير مبتدأ، أي: فهي من عندك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزامك إتمام العشرة الأعوام، واشتقاق المشقة من الشقّ، أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول: أطيق، وتارة يقول: لا أطيق.