فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي موسى {من الكاذبين} أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها.
ولما قال هذا مريدًا به- كما تقدم- إيقاف قومه عن إتباع الحق، أتبعه تعالى الإشارة إلى أنهم فعلوا ما أراد، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى: {واستكبر} أي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه {هو} بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل {وجنوده} بانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل {في الأرض} أي أرض مصر، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل {بغير الحق} أي استكبارًا مصحوبًا بغير هذه الحقيقة، والتعبير بالتعريف يدل على أن التعظيم بنوع من الحق ليس كبرًا وإن كانت صورته كذلك، وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله، وعطف على ذلك ما تفرع عنه وعن الغباوة أيضًا ولذا لم يعطفه بالفاء، فقال: {وظنوا} أي فرعون وقومه ظنًا بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع {أنهم إلينا} أي إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عنده انقطاع الأسباب {لا يرجعون} أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلذلك اجترؤوا على ما ارتكبوه من الفساد.
ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال: {فأخذناه} أي بعظمتنا أخذ قهر ونقمة {وجنوده} أي كلهم، وذلك علينا هين، وأشار إلى احتقارهم بقوله: {فنبذناهم} أي على صغرهم وعظمتنا {في اليم} فكانوا على كثرتهم وقوتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الذراع من يده في البحر، فغابوا في الحال، وما آبوا ولا أحد منهم إلى أهل ولا مال.
ولما سببت هذه الآية من العلوم، ما لا يحيط به الفهوم، قال: {فانظر} أي أيها المتعرف للآيات الناظر فيها نظر الاعتبار؛ وزاد في تعظيم ذلك بالتنبيه على أنه مما يحق له أن يسأل عنه فقال: {كيف كان} أي كونًا هو الكون {عاقبة} أي آخر أمر {الظالمين} وإن زاد ظلمهم، وأعيى أمرهم، ذهبوا في طرفة عين، كأن لم يكونوا، وغابوا عن العيون كأنهم قط لم يبينوا، وسكتوا بعد ذلك الأمر والنهي فصاروا بحيث لم يبينوا، فليحذر هؤلاء الذين ظلموا إن استمروا على ظلمهم أن ينقطعوا ويبينوا، وهذا إشارة عظيمة بأعظم بشارة بأن كل ظالم يكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق، ورابطه حتى يحكم الله وهو خير الحالكمين.
ولما كان «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وكانوا أول من أصر وأطبق في ذلك الزمان على تكذيب الآيات، وإخفاء الدلالات النيرات، على تواليها وكثرتها، وطول زمانها وعظمتها وكانت منابذة العقل واتباع الضلال في غاية الاستبعاد، لاسيما إن كانت ضامنة للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، قال تعالى في مظهر العظمة: {وجعلناهم} أي في الدنيا {أئمة} أي متبوعين في رد ما لا يرده عاقل من هذه الآيات، أي جعلنا أمرهم شهيرًا حتى لا يكاد أحد يجهله، فكل من فعل مثل أفعالهم من رد الحق والتجبر على الخلق، فكأنه قد اختار الاقتداء بهم وإن لم يكن قاصدًا ذلك، فأطلق ذلك عليه رفعًا له عن النسبة إلى أنه يعمل ما يلزمه الاتسام به وهو عاقل عنه كما أنه لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل، وأحق الناس باتباعهم في باطن اعتقادهم وظاهر اصطناعهم، وخيبة آمالهم وأطماعهم أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد أهلك الله أنصارهم.
وعجل دمارهم، وكشف هذا المعنى بقوله: {يدعون} أي يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم، فضل ضلالهم {إلى النار} أي وجعلنا لهم أعوانًا ينصرونهم عكس ما أردنا لبني إسرائيل- كما سلف أول السورة- وجعلناهم موروثين.
ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة، وكان قد أخبر عن خذلانهم في الدنيا، قال: {ويوم القيامة} أي الذي هو يوم التغابن {لا ينصرون} أي لا يكون لهم نوع نصرة أصلًا كما كانوا يوم هلاكهم في الدنيا سواء، ولا هم أئمة ولا لهم دعوة، يخلدون في العذاب، ويكون لهم سوء المآب.
ولما أخبر عن هذا الحال، أخبر عن ثمرته؛ فقال في مظهر العظمة، لأن السياق لبيان علو فرعون وآله، وأنهم مع ذلك طوع المشيئة {وأتبعناهم في هذه} ولما كان المراد الإطناب في بيان ملكهم، فسر اسم الإشارة فقال: {الدنيا} ولم يقل: الحياة، لأن السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم {لعنة} أي طردًا وبعدًا عن جنابنا ودفعًا لهم بذلك ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم، أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن والفهم {ويوم القيامة هم} أي خاصة، ومن شاكلهم {من المقبوحين} أي المبعدين أيضًا المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال، والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال، من القبح الذي هو ضد الحسن، ومن قولهم: قبحت الشيء- إذا كسرته، وقبح الله العدو: أبعده عن كل خير، فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أن فرعون عدو الله، في الآخرة كما كان عدوه في الدنيا، فلعنة الله على من يقول: إنه مات مؤمنًا، وإنه لا صريح في القرآن بأنه من أهل النار، وعلى كل من يشك في كفره بعد ما ارتكبه من جلي أمره. اهـ.

.قال الفخر:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}.
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر هاهنا شبهتين الأولى: قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين: أحدهما: نفي إله غيره والثاني: إثبات إلهية نفسه، فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته، أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع، وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر.
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب، وعرفنا بالضرورة أن المحدث لابد له من محدث فحينئذ نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع، والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه، قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلًا، فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه، وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذبًا في دعواه، ففرعون على نهاية جهله أحسن حالًا من هذا المستدل.
أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه، فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقًا للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقًا لذوات الناس وصفاتهم، فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل، بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقًا للسماء والأرض، لاسيما وقد دللنا في سورة طه (49) في تفسير قوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} على أنه كان عارفًا بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجًا على الأغمار من الناس الشبهة الثانية: قوله: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} وهاهنا أبحاث:
الأول: تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب: أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله: {رَبّ السموات والأرض} [الشعراء: 24] ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض، فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء، وذلك أيضًا من خبث فرعون ومكره ودهائه.
الثاني: اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح؟ قال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك، ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم، فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه.
ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخًا بالدم، فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعًا قويًا لمن أحب الطعن في القرآن، فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل، فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس، فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه، ثم قال عند ذلك لهامان: {ابن لِى صَرْحًا أَبْلُغُ بِهِ أسباب السموات} وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال: {وَإِنّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} فهذا التأويل أولى مما عداه.
الثالث: إنما قال: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين} ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان، وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر، والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد.
أما قوله: {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ في الأرض بِغَيْرِ الحق} فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن، قال عليه السلام فيما حكى عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في النار» وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
المسألة الثانية:
قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب، لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق، واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه، إما أن يكون منه أو من الله تعالى، أو لا منه ولا من الله تعالى، فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره، فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر؟ وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض، وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر؟ واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل.
أما قوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا.
أما قوله: {فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم في اليم} فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم استحقارًا لهم واستقلالًا لعددهم، وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات} [المرسلات: 27] {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14] {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته.