فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى}.
قاله اللعين بعدما جمع السحرة وتصدى للمعارضة، والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه، ولم يجزم بالعدم بأن يقول: ليس لكم إله غيري مع أن كلًا من هذا وما قاله كذب، لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالمًا بأن إلههم غيره، وما تركه أوفق ظاهرًا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارًا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادًا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلهًا غيري كما يقول موسى، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك.
{فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين} أي اصنع لي آجرًا {فاجعل لّى} منه {صَرْحًا} أي بناءً مكشوفًا عاليًا من صريح الشيء إذا ظهر {لَّعَلّى أَطَّلِعُ} أي أطلع وأصعد فأفتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره.
{إلى إله موسى} الذي يذكر أنه إلهه وإله العالمين، كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسمًا في السماء كون الأجسام فيها يمكن الرقي إليه ثم قال: {وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} فيما يذكر تأكيدًا لما أراد وإعلامًا بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليه السلام ليس لأنه جازم بأنه هناك، والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بنى، وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما الله عز وجل أعلم به، وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر، ويكون ما ذكر ذكرًا لأحد طرق التحقيق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الأمر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول، وعلى الأول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل إليهم فقال لهم: صعدت إلى إله موسى وحققت إن ليس الأمر كما يقول وعلمت أن ليس لكم إله غيري.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما بنى له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهو متلطخة دمًا فقال قتلت إله موسى، وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح.
وأيًا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان.
ولله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافًا لما عليه اللعين بحال من الأحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سوطته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلًا وعالمًا فاضلًا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلًا أو كفرًا بالآخرة.
وكان قول اللعين لموسى عليه السلام {لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين} [الشعراء: 29] بعد هذا القول المحكي هاهنا بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره، ثم هدد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه، وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء وفيها أوجه أخر.
الأول أنه أراد بقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} نفي العلم دون الوجود كما في ذلك الوجه إلا أنه لم ينف الوجود لأنه لم يكن عنده ما يقضتي الجزم بالعدم وأراد بقوله إني لأظنه من الكاذبين إني لأظنه كاذبًا في دعوى الرسالة من الله تعالى، وأراد بقوله: يا هامان أوقد لي على الطين الخ إعلام الناس بفساد دعواه تلك بناء على توهمه أنه تعالى إن كان كان في السماء بأنه لو كان رسولًا منه تعالى فهو ممن يصل إليه، وذلك بالصعود إليه وهو مما لا يقوى عليه الإنسان فيكون من نوع المحال بالنسبة إليه فما بنى عليه وهي الرسالة منه تعالى مثله، فقوله: {فاجعل لّى صَرْحًا} لإظهار عدم إمكان الصعود الموقوف عليه صحة دعوى الرسالة في زعمه ولعل للتهكم.
الثاني: أنه أراد أيضًا نفي العلم بالوجود دون الوجود نفسه لكنه كان في نفي العلم ملبسًا على قومه كاذبًا فيه حيث كان يعلم أن لهم إلهًا غيره هو إله الخلق أجمعين، وهو الله عز وجل وأراد بقوله: {وَإِنّى} الخ إني لأظنه كاذبًا في دعوى الرسالة كما في سابقه، وأراد بقوله يا هامان الخ طلب أن يجعل له ما يزيل به شكه في الرسالة، وذلك بأن يبني له رصدًا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب الدالة على الحوادث الكونية بزعمه فيرى هل فيها ما يدل على إرسالة الله تعالى إياه.
وتعقب بأنه لا يناسب قوله: {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} إلا أن يراد فأطلع على حكم إله موسى بأوضاع الكواكب والنظر فيها هل أرسل موسى كما يقول أم لا؟ فيكون الكلام على تقدير مضاف و{إلى} فيه بمعنى على، وجوز على هذا الوجه أن يكون قد أراد بإله موسى الكواكب فكأنه قال لعلي أصعد إلى الكواكب التي هي إله موسى فأنظر هل فيها ما يدل على إرسالها إياه أو لعلي أطلع على حكم الكواكب التي هي إله موسى في أمر رسالته وهو كما ترى، وبالجملة هذا الوجه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
الثالث: أنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده وبظنه كاذبًا ظنه كاذبًا في إثباته إلهًا غيره ويفسر الظن باليقين كما في قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ** سراتهم في الفارسي المسرد

فإثبات الظن المذكور لا يدفع إرادة ذلك النفي، وجوز بعضهم إبقاءه على ظاهره، وقال في دفع المنافاة: يمكن أن يقال: الظاهر أن كلامه الأول كان تمويهًا وتلبيسًا على القوم، والثاني كان مواضعة مع صاحب سره هامان فإثبات الظن في الثاني لا يدفع أن يكون العلم في الأول لنفي المعلوم، وفيه أنه يأبى ذلك سوق الآية، والفاء في فأوقد لي وطلبه بناء الصرح راجيًا الصعود إلى إله موسى عليه السلام أراد به التهكم كأنه نسب إلى موسى عليه السلام القول بأن إلهه في السماء فقال: {فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِى صَرْحًا} لأصعد إلى إله موسى متهكمًا به، وهذا نظير ما إذا أخبرك شخص بحياة زيد وأنه في داره، وأنت تعلم خلاف ذلك فتقول لغلامك بعد أن تذكر علمك بما يخالف قوله متهكمًا به يا غلام أسرج لي الدابة لعلي أذنب إلى فلان وأستأنس به بل ما قاله فرعون أظهر في التهكم مما ذكر فطلبه بناء الصرح بناء على هذا لا يكون منافيًا لما ادعاه أولًا وآخرًا من العلم واليقين.
وقال بعضهم: في دفع ما قيل: من المنافاة: إنها إنما تكون لو لم يكن قوله: لعلي أطلع الخ على طريق التسليم والتنزل، وقال آخر في ذلك: إن اللعين كان مشركًا يعتقد أن من ملك قطرًا كان إلهه ومعبود أهله فما أثبته في قوله: {لَّعَلّى أَطَّلِعُ} الخ الإله لغير مملكته وما نفاه إلهها كما يشير إليه قوله لكم ولا يخلو عن بحث.
وفي الكشاف القول بالمناقضة بين بناء الصرح وما ادعاه من العلم واليقين إلا أنه قال قد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم أو لم تخف عليهم ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه وإذا فتح هذا الباب جاز إبقاء الظن على ظاهره من غير حاجة إلى دفع التناقض، والأولى عندي السعي في دفع التناقض فإذا لم يمكن استند في ارتكاب المخذول إياه إلى جهله أو صفهه وعدم مبالاته بالقوم لغباوتهم أو خوفهم منه أو نحو ذلك، واعترض القول بأنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده فقال في التحقيق: وذكره غيره أيضًا إنه غير سديد فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه لاسيما عدم علم شخص واحد.
وقال القاضي البيضاوي: هذا في العلوم الفعلية صحيح لأنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية ورد بأن غرض قائل ذلك أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ولا شك أنه كذلك فأطلق المسبب وأريد السبب لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد جاز أن يطلق ويراد به الوجود إذ لا يشترط في فن البلاغة اللزوم العقلي بل العادي والعرفي كاف أيضًا وقد يقول أحد منا لا أعلم ذلك أي لو كان موجودًا لعلمته إذا قامت قرينة وهذا الاستعمال شائع في عرفي العرب والعجم عند العامة والخاصة ومنه قول المزكي: إذا سئل عن عدالة الشهود لا أعلم كيف، وكان المخذول يدعي الإلهية، ثم الظاهر أن الكلام على تقدير إرادة نفي الوجود كناية لا مجاز، وبالجملة ما ذكر وجه وجيه وتعيين الأوجه مفوض إلى ذهنك والله تعالى الموفق.
واستدل بعض من يقول: إن الله تعالى في السماء بالمعنى الذي أراده سبحانه في قوله عز وجل: {أأمنتم من في السَّمَاء} [الملك: 16] حسبما يقول السلف بهذه الآية، ووجه ذلك بأن فرعون لو لم يسمع من موسى عليه السلام أن إلهه في السماء لما قال: فاجعل لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى فقوله ذلك دليل السماع إلا أنه أخطأ في فهم المراد مما سمعه فزعم أن كونه تعالى في السماء بطريق المظروفية والتمكن ونحوهما مما يكون للأجسام، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وإثبات مذهب السلف لا يحتاج إلى أن يتمسك له بمثل ذلك وفي قول المخذول: أوقد لي على الطين والمراد به اللبن دون اصنع لي آجرًا إشارة إلى أن لم يكن لهامان علم بصنعة الآجر فأمره باتخاذه على وجه يتضمن التعليم، وفي الآثار ما يؤيد ذلك، فقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال فرعون أول من أمر بصنعة الآجر وبنائه، وأخرج هو وجماعة عن قتادة قال بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال ما علمت إن إحدًا بني بالآجر غير فرعون وفي أمره إياه وهو وزيره ورديفه بعمل السفلة من الإيقاد على الطين مناديًا له باسمه دون تكنية وتلقيب بيا دون ما يدل على القرب في وسط الكلام دون أوله من الدلالة على تجبره وتعظمه ما لا يخفى.
{واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ} أي رأوا كل سواهم حقيرًا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد {فِى الأرض} الأكثرون على أن المراد في أرض مصر، وقيل: المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء، وفي التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الإجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا {بِغَيْرِ الحق} أي بغير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرًا بالإضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقًا إلا من الله عز وجل، ومن هنا قال الزمخشري؛ الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وكل مستكبر سواه عز وجل فاستكباره بغير الحق، وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحد منهما ألقيته في النار» {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالبعث للجزاء، والظن قيل: إما على ظاهره أو عبر عن اعتقادهم به تحقيرًا لهم وتمهيلًا، وقرأ حمزة والكسائي ونافع {لاَ يَرْجِعُونَ} بفتح الياء وكسر الجيم.