فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِي اليم} أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه، وقد مر تفصيل ذلك، وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ** كنبذك نعلًا من نعالك باليا

استحقار لهم، وفي الكلام على ما قيل استعارة مكنية وتخييلية وذلك أنهم شبهوا في الحقارة بنعال بالية واستعير لهم اسم النعال ثم حذف المستعار وبقي المستعار له وجعل النبذ قرينة على أنه حقيقة والمجاز في التعلق على نحو ما قيل في أظفار المنية نشبت بفلان، وقال بعضهم: الأخذ وهو حقيقة في التناول مجاز عن خلق الداعية لهم إلى السير إلى البحر، والنبذ مجاز عن خلق الداعية لهم إلى دخوله، وفي البحر أنه كناية عن إدخالهم فيه والأولى أن يكون الكلام من باب التمثيل كأنه عز وجل فيما فعل بهم أخذهم مع كصرتهم في كف وطرحهم في اليم، والظاهر أن الفاء الأولى سببية وليست لمجرد التعقيب وأما الثانية فللتعقيب إذا أبقى الأخذ على معنى التناول أو أريد به خلق الداعية إلى السير أو نحوه أما إذا أريد به الإهلاك فهي للتفسير كما في {فاستجبنا له فنجيناه} [الأنبياء: 76] ونحوه {فانظر} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وبينها للناس ليعبروا بها.
{وجعلناهم} أي خلقناهم {أَئِمَّةَ} قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال كما يؤذن بذلك قوله تعالى: {يَدْعُونَ إِلَى النار} أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي على أن النار مجاز عن ذلك أو على تقدير مضاف والمراد جعلهم ضالين مضلين والجعل هنا مثله في قوله تعالى: {جَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان لله عز وجل وأولها المعتزلة تارة بأن الجعل فيها بمعنى التسمية مثله في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19] أي وسميناهم فيما بين الأمم بعدهم دعاة إلى النار، وتارة بأن جعلهم كذلك بمعنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والأولى محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي، وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجيل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
{وأتبعناهم} {فِى هذه الدنيا} التي فتنتهم {لَّعْنَةُ} طردًا وإبعادًا أو لعنًا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفًا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنونهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن الله تعالى فرعون وجنوده {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} من المطرودين المبعدين يقال: قبحه الله تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث، ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل: لأن معناها الطرد أيضًا لأن ذلك في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص، وقال أبو عبيدة والأخفش {من المقبوحين} أي من المهلكين، وعن ابن عباس أي من المشوهين في الخلقة بسواد الوجود وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر، وقد يقال: إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضًا، وجوز أن يكون ذلك تفسيرًا بما هو لازم في الجملة، ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو بمحذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفًا في نظيره، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروى عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور، والظاهر ما سمعته أولًا.
وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة فإن ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم إرجاعها إلى الجنود في الجنود، وفي الفتاوي الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنًا وخلق فرعون في بطن أمه كافر». اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}.
كلام فرعون المحكي هنا واقع في مقام غير مقام المحاورة مع موسى فهو كلام أقبل به على خطاب أهل مجلسه إثر المحاورة مع موسى فلذلك حُكي بحرف العطف عطف القصة على القصة.
فهذه قصة محاورة بين فرعون وملئه في شأن دعوة موسى فهي حقيقة بحرف العطف كما لا يخفى.
أراد فرعون بخطابه مع ملئه أن يثبتهم على عقيدة إلهيته فقال: {ما علمتُ لكم من إله غيري} إبطالا لقول موسى المحكي في سورة [الشعراء: 26] {قال ربكم ورب آبائكم الأولين} وقوله هناك {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء: 24].
فأظهر لهم فرعون أن دعوة موسى لم تَرُجْ عنده وأنه لم يصدق بها فقال: {ما علمت لكم من إله غيري} والمراد بنفي علمه بذلك نفي وجود إله غيره بطريق الكناية يريهم أنه أحاط علمه بكل شيء حق فلو كان ثمة إله غيره لعلمه.
والمقصود بنفي وجود إله غيره نفي وجود الإله الذي أثبته موسى وهو خالق الجميع.
وأما آلهتهم التي يزعمونها فإنها مما تقتضيه إلهية فرعون لأن فرعون عندهم هو مظهر الآلهة المزعومة عندهم لأنه في اعتقادهم ابن الآلهة وخلاصة سرهم، وكل الصيد في جوف الفرا.
وحيث قال موسى إن الإله الحق هو رب السموات فقد حسب فرعون أن مملكة هذا الرب السماء تصورًا مختلًا ففرع على نفي إله غيره وعلى توهم أن الرب المزعوم مقره السماء أن أمر {هامان} وزيره أن يبني له صرحًا يبلغ به عنان السماء ليرى الإله الذي زعمه موسى حتى إذا لم يجده رجع إلى قومه فأثبت لهم عدم إله في السماء إثبات معاينة، أراد أن يظهر لقومه في مظهر المتطلب للحق المستقصي للعوالم حتى إذا أخبر قومه بعد ذلك بأن نتيجة بحثه أسفرت عن كذب موسى ازدادوا ثقة ببطلان قول موسى عليه السلام.
وفي هذا الضغث من الجدل السفسطائي مبلغ من الدلالة على سوء انتظام تفكيره وتفكير ملئه، أو مبلغ تحيله وضعف آراء قومه.
و{هامان} لقب أو اسم لوزير فرعون كما تقدم آنفًا.
وأراد بقوله: {فأوقد لي يا هامان على الطين} أن يأمر {هامان} العملة أن يطبخوا الطين ليكون آجرًا ويبنوا به فكني عن البناء بمقدماته وهي إيقاد الأفران لتجفيف الطين المتخذ آجرًا.
والآجرّ كانوا يبنون به بيوتهم فكانوا يجعلون قوالب من طين يتصلب إذا طبخ وكانوا يخلطونه بالتبن ليتماسك قبل إدخاله التنور كما ورد وصف صنع الطين في الإصحاح الخامس من سفر الخروج.
وابتدأ بأمره بأول أشغال البناء للدلالة على العناية بالشروع من أول أوقات الأمر لأن ابتداء البناء يتأخر إلى ما بعد إحضار مواده فلذلك أمره بالأخذ في إحضار تلك المواد التي أولها الإيقاد، أي إشعال التنانير لطبخ الآجرّ.
وعُبر عن الآجرّ بالطين لأنه قوام صنع الآجرّ وهو طين معروف.
وكأنه لم يأمره ببناء من حجر وكلس قصدًا للتعجيل بإقامة هذا الصرح المرتفع إذ ليس مطلوبًا طول بقائه بإحكام بنائه على مرّ العصور بل المراد سرعة الوصول إلى ارتفاعه كي يشهده الناس، ويحصل اليأس ثم يُنقض من الأساس.
وعدل عن التعبير بالآجرّ، قال ابن الأثير في المثل السائر: لأن كلمة الآجرّ ونحوها كالقرمد والطوب كلمات مبتذلة فذكر بلفظ الطين. اهـ.
وأظهر من كلام ابن الأثير: أن العدول إلى الطين لأنه أخف وأفصح.
وإسناد الإيقاد على الطين إلى هامان مجاز عقلي باعتبار أنه الذي يأمر بذلك كما يقولون: بنى السلطان قنطرة وبنى المنصور بغداد.
وتقدم ذكر هامان آنفًا وأنه وزير فرعون.
وكانت أوامر الملوك في العصور الماضية تصدر بواسطة الوزير فكان الوزير هو المنفذ لأوامر الملك بواسطة أعوانه من كتاب وأمراء ووكلاء ونحوهم، كل فيما يليق به.
والصرح: القصر المرتفع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قيل لها ادخلي الصرح} في سورة [النمل: 44].
ورجا أن يصل بهذا الصرح إلى السماء حيث مقر إله موسى.
وهذا من فساد تفكيره إذ حسب أن السماء يوصل إليها بمثل هذا الصرح ما طال بناؤه، وأن الله مستقر في مكان من السماء.
والاطلاع: الطلوع القوي المتكلف لصعوبته.
وقوله: {وإني لأظنه من الكاذبين} استعمل فيه الظن بمعنى القطع فكانت محاولته الوصول إلى السماء لزيادة تحقيق ظنه، أو لأنه أراد أن يقنع قومه بذلك.
ولعله أراد بهذا تمويه الأمر على قومه ليلقي في اعتقادهم أن موسى ادعى أن الله في مكان معين يبلغ إليه ارتفاع صرحه.
ثم يجعل عدم العثور على الإله في ذلك الارتفاع دليلًا على عدم وجود الإله الذي ادعاه موسى.
وكانت عقائد أهل الضلالة قائمة على التخيل الفاسد، وكانت دلائلها قائمة على تمويه الدجالين من زعمائهم.
وقوله: {من الكاذبين} يدل على أنه يعده من الطائفة الذين شأنهم الكذب كما تقدم في قوله تعالى: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67].
ولم يذكر القرآن أن هذا الصرح بُني، وليس هو أحد الأهرام لأن الأهرام بنيت من حجارة لا من آجرّ، ولأنها جعلت مدافن للذين بنوها من الفراعنة.
واختلف المفسرون هل وقع بناء هذا الصرح وتم أو لم يقع؛ فحكى بعضهم أنه تم وصعد فرعون إلى أعلاه ونزل وزعم أنه قتل رب موسى.
وحكى بعضهم أن الصرح سقط قبل إتمام بنائه فأهلك خلقًا كثيرًا من عملة البناء والجند.
وحكى بعضهم أنه لم يشرع في بنائه.
وقد لاح لي في معنى الآية وجه آخر سأذكره في سورة المؤمن.
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)}.
الاستكبار: أشد من الكبر، أي تكبر تكبرًا شديدًا إذ طمع في الوصول إلى الرب العظيم وصول الغالب أو القرين.
و{جنوده} أتباعه.
فاستكباره هو الأصل واستكبار جنوده تبع لاستكباره لأنهم يتّبعونه ويتلقون ما يمليه عليهم من العقائد.
و{الأرض} يجوز أن يراد بها المعهودة، أي أرض مصر وأن يراد بها الجنس، أي في عالم الأرض لأنهم كانوا يومئذ أعظم أمم الأرض.
وقوله: {بغير الحق} حال لازمة لعاملها إذ لا يكون الاستكبار إلا بغير الحق.
وقوله: {وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} معلوم بالفحوى من كفرهم بالله، وإنما صرح به لأهمية إبطاله فلا يكتفى فيه بدلالة مفهوم الفحوى، ولأن في التصريح به تعريضًا بالمشركين في أنهم وإياهم سواء فليضعوا أنفسهم في أي مقام من مقامات أهل الكفر، وقد كان أبو جهل يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة أخذًا من تعريضات القرآن.
ومعنى ذلك: ظنوا أن لا بعث ولا رجوع لأنهم كفروا بالمرجوع إليه.
فذكر {إلينا} لحكاية الواقع وليس بقيد فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين.
وتقديم {إلينا} على عامله لأجل الفاصلة.