فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يعني التوراة؛ قاله قتادة.
قال يحيى بن سلاّم: هو أوّل كتاب يعني التوراة نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام.
وقيل: الكتاب هنا ستّ من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس، ورواه مرفوعًا.
{مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} قال أبو سعيد الخدري قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أهلك الله قومًا ولا قرنًا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى}» أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود.
وقيل: أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون.
{بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} أي آتيناه الكتاب بصائر.
أي ليتبصروا {وَهُدًى} أي من الضلالة لمن عمل بها {وَرَحْمَةً} لمن آمن بها.
{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ليذكروا هذه النعمة فيقيموا على إيمانهم في الدنيا، ويثقوا بثوابهم في الآخرة.
قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ} أي ما كنت يا محمد {بِجَانِبِ الغربي} أي بجانب الجبل الغربيّ قال الشاعر:
أعطاكَ من أعطى الهُدَى النبِيَّا ** نُورًا يَزِينُ المِنبرَ الغربِيَّا

{إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} إذ كلفناه أمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا.
وقيل: أي إذ قضينا إلى موسى أمرك وذكرناك بخير ذكرٍ.
قال ابن عباس: {إِذْ قَضَيْنَا} أي أخبرنا أن أمة محمد خير الأمم.
{وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} أي من الحاضرين.
قوله تعالى: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُونًا} أي من بعد موسى {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} حتى نسوا ذكر الله أي عهده وأمره.
نظيره: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].
وظاهر هذا يوجب أن يكون جرى لنبيّنا عليه السلام ذكر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدّة، وغلبت القسوة، فنسَي القوم ذلك.
وقيل: آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدًا مجددًا للدين وداعيًا الخلق إليه: وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا في أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مقيمًا كمقام موسى وشعيب بينهم.
قال الَعجَّاج:
فباتَ حيث يدخلُ الثَّوِيُّ

أي الضيف المقيم.
وقوله: {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي تذكرهم بالوعد والوعيد.
{وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي أرسلناك في أهل مكة، وآتيناك كتابًا فيه هذه الأخبار: ولولا ذلك لما علمتها.
قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين.
وروى عمرو بن دينار يرفعه قال: «نودي يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني» فذلك قوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا}.
وقال أبو هريرة وفي رواية عن ابن عباس إن الله قال: يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال: يا رب أرنيهم.
فقال الله: إنك لن تدركهم وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم قال: بلى يا رب.
فقال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوا من أصلاب آبائهم.
فقال: قد أجبتكم قبل أن تدعوني ومعنى الآية على هذا ما كنت بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وأخبرناه بما كتبناه لك ولأمتك من الرحمة. إلى آخر الدنيا.
{ولكن} فعلنا ذلك {رَّحْمَةً} منّا بكم.
قال الأخفش: {رَحْمَةً} نصب على المصدر أي ولكن رحمناك رحمة.
وقال الزجاج: هو مفعول من أجله أي فعل ذلك بك لأجل الرحمة.
النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة.
وقال الكسائي: على خبر كان؛ التقدير: ولكن كان رحمة.
قال: ويجوز الرفع بمعنى هي رحمة.
الزجاج: الرفع بمعنى ولكن فِعل ذلك رحمة.
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} يعني العرب؛ أي لم تشاهد تلك الأخبار، ولكن أوحيناها إليك رحمة بمن أرسلت إليهم لتنذرهم بها {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
قوله تعالى: {ولولا أَن تُصِيبَهُم} يريد قريشًا.
وقيل: اليهود.
{مُّصِيبَةٌ} أي عقوبة ونقمة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي.
وخص الأيدي بالذكر؛ لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها.
وجواب {لَوْلا} محذوف أي لولا أن يصيبهم عذاب بسبب معاصيهم المتقدّمة {فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا} أي هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} لما بعثنا الرسل.
وقيل: لعاجلناهم بالعقوبة.
وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار كما تقدّم في سبحان وآخر طه.
{فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ} نصب على جواب التحضيض.
{وَنَكُونَ} عطف عليه.
{مِنَ المؤمنين} من المصدّقين.
وقد احتج بهذه الآية من قال: إن العقل يوجب الإيمان والشكر؛ لأنه قال: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وذلك موجب للعقاب إذ تقرّر الوجوب قبل بعثة الرسل، وإنما يكون ذلك بالعقل.
قال القشيري: والصحيح أن المحذوف لولا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل.
أي هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد، فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم طال العهد بالرسل، ويظن أن ذلك عذر ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر، وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد إليهم.
وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدًا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما ذكر تعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليه السلام فقال: {ولقد آتينا موسى الكتاب} وهو التوراة، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام.
{من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} قوم نوح وهود وصالح ولوط، ويقال: لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة.
وانتصب بصائر على الحال، أي طرائق هدي يستبصر بها.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}.
لما قص الله تعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء، ورميه في البحر في تابوت، ورده إلى أمّه، وتبني فرعون له، وإيتائه الحكم والعلم، وقتله القبطي، وخروجه من منشئه فارًا، وتصاهره مع شعيب، ورعيه لغنمه السنين الطويلة، وعوده إلى مصر، وإضلاله الطريق، ومناجاة الله له، وإظهار تينك المعجزتين العظيمتين على يديه، وهي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون، ومحاورته معه، وتكذيب فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة؛ وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر}.
والأمر، قيل: النبوّة والحكم الذي آتاه الله موسى.
وقيل: الأمر: أمر محمد عليه السلام أن يكون من أمته، وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله: {ولكنا أنشأنا قرونًا}.
وقيل: الأمر: هلاك فرعون بالماء، ويحمل بجانب الغربى على اليم، وبدأ أولًا بنفي شيء خاص، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين.
والمعنى، والله أعلم؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى، فكان عمومًا بعد خصوص.
وبجانب الغربي: من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم.
فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي، والترجيح بين القولين مذكور في النحو.
والغربي، قال قتادة: غربي الجبل، وقال الحسن: بعث الله موسى بالغرب، وقال أبو عبيدة: حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم.
وقيل: هنا جبل غربي.
وقيل: الغربي من الوادي، وقيل: من البحر.
قال ابن عطية: المعنى: لم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها، ولكنها صارت إليك بوحينا، أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمنًا زمنًا، فعزبت حلومهم، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم.
وقال الزمخشري: الغرب: المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور، وكتب الله له في الألواح.
والأمر المقضي إلى موسى: الوحي الذي أوحى إليه.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وما كنت حاضرًا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه، أو على الوحي إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته، وكتب التوراة له في الألواح، وغير ذلك.
فإن قلت: كيف يتصل قوله: {ولكنا أنشأنا قرونًا} بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكًا؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكًا من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونًا كثيرة، فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم.
{العمر} أي أمد انقطاع الوحي، واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدًا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره.
فإذن، هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده.
{وما كنت ثاويًا} أي مقيمًا في أهل مدين، هم شعيب والمؤمنون.
{تتلوا عليهم آياتنا} تقرأ عليهم تعلمًا منهم، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه.
ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها.
{إذ نادينا} يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه، ولكن علمناك.
وقيل: {فتطاول عليهم العمر} وفترت النبوة، ودرست الشرائع، وحرف كثير منها؛ وتمام الكلام مضمر تقديره: وأرسلناك مجددًا لتلك الأخبار، مميزًا للحق بما اختلف فيه منها، رحمة منا.