فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويتعلق {لتنذر قومًا} بما دل عليه مصدر {رحمة} على الوجوه المتقدمة.
واللام للتعليل.
والقوم: قريش والعرب، فهم المخاطبون ابتداءً بالدين وكلهم لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأما إبراهيم واسماعيل عليهما السلام فكانا نذيرين حين لم تكن قبيلة قريش موجودة يومئذ ولا قبائل العرب العدنانية، وأما القحطانية فلم يرسل إليهم إبراهيم لأن اشتقاق نسب قريش كان من عدنان وعدنان بينه وبين إسماعيل قرون كثيرة.
وإنما اقتصر على قريش أو على العرب دون سائر الأمم التي بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم لأن المنة عليهم أوفى إذ لم تسبق لهم شريعة من قبل فكان نظامهم مختلًا غير مشوب بإثارة من شريعة معصومة، فكانوا في ضرورة إلى إرسال نذير، وللتعريض بكفرانهم هذه النعمة، وليس في الكلام ما يقتضي تخصيص النذارة بهم ولا ما يقتضي أن غيرهم ممن أنذرهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتهم نذير من قبله مثل اليهود والنصارى وأهل مدين.
وفي قوله: {لتنذر} مع قوله: {ما أتاهم من نذير} إشارة إلى أنهم بلغوا بالكفر حدًا لا يتجاوزه حلم الله تعالى.
والتذكر: هو النظر العقلي في الأسباب التي دعت إلى حكمة إنذارهم وهي تناهي ضلالهم فوق جميع الأمم الضالة إذ جمعوا إلى الإشراك مفاسد جمة من قتل النفوس، وارتزاق بالغارات وبالمقامرة، واختلاط الأنساب، وانتهاك الأعراض.
فوجب تذكيرهم بما فيه صلاح حالهم.
وتقدم آنفًا نظير قوله: {لعلهم يتذكرون}.
{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}.
هذا متصل بقوله: {لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} [القصص: 46]، لأن الإنذار يكون بين يدي عذاب.
و{لولا} الأولى حرف امتناع لوجود، أي انتفاء جوابها لأجل وجود شرطها وهو حرف يلزم الابتداء فالواقع بعده مبتدأ والخبر عن المبتدأ الواقع بعد {لولا} واجب الحذف وهو مقدر بكون عام.
والمبتدأ هنا هو المصدر المنسبك من {أن} وفعل {تصيبهم} والتقدير: لولا إصابتهم بمصيبة، وقد عقب الفعل المسبوك بمصدر بفعل آخر وهو {فيقولوا} فوجب أن يدخل هذا الفعل المعطوف في الانسباك بمصدر، وهو معطوف بفاء التعقيب.
فهذا المعطوف هو المقصود مثل قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282] فالمقصود هو أن تذكر إحداهما الأخرى.
وإنما حيك نظم الكلام على هذا المنوال ولم يقل: ولولا أن يقولوا ربنا الخ حين تصيبهم مصيبة. إلى آخره، لنكتة الاهتمام بالتحذير من إصابة المصيبة فوضعت في موضع المبتدأ دون موضع الظرف لتساوي المبتدأ المقصود من جملة شرط {لولا} فيصبح هو وظرفه عمدتين في الكلام، فالتقدير هنا: ولولا إصابتهم بمصيبة يعقبها قولهم {ربنا لولا أرسلت} الخ لما عبأنا بإرسالك إليهم لأنهم أهل عناد وتصميم على الكفر.
فجواب {لولا} محذوف دل عليه ما تقدم من قوله: {وما كنت بجانب الغربي} إلى قوله: {لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك} [القصص: 44 46]، أي ولكنا أعذرنا إليهم بإرسالك لنقطع معذرتهم.
وجواب {لولا} محذوف دل عليه الكلام السابق، أي لولا الرحمة بهم بتذكيرهم وإنذارهم لكانوا مستحقين حلول المصيبة بهم.
و{لولا} الثانية حرف تحضيض، أي هلا أرسلت إلينا قبل أن تأخذنا بعذاب فتصلح أحوالنا وأنت غني عن عذابنا.
وانتصب {فنتبع} بأن مضمرة وجوبًا في جواب التحضيض.
وضمير {تصيبهم} عائد إلى القوم الذين لم يأتهم نذير من قبل.
والمراد {بما قدمت أيديهم} ما سلف من الشرك.
والمصيبة: ما يصيب الإنسان، أي يحل به من الأحوال، وغلب اختصاصها بما يحل بالمرء من العقوبة والأذى.
والباء في {بما قدمت أيديهم} للسببية، أي عقوبة كان سببها ما سبق على أعمالهم السيئة.
والمراد بها هنا عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه، وتقدم عند قوله تعالى: {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم} في سورة [النساء: 62].
وهي ما يجترجونه من الأعمال الفاحشة.
وما قدمت أيديهم ما اعتقدوه من الإشراك وما عملوه من آثار الشرك.
والأيدي مستعار للعقول المكتسبة لعقائد الكفر.
فشبه الاعتقاد القلبي بفعل اليد تشبيه معقول بمحسوس.
وهذه الآية تقتضي أن المشركين يستحقون العقاب بالمصائب في الدنيا ولو لم يأتهم رسول لأن أدلة وحدانية الله مستقرة في الفطرة ومع ذلك فإن رحمة الله أدركتهم فلم يصبهم بالمصائب حتى أرسل إليهم رسولًا.
ومعنى الآية على أصول الأشعري وما بينه أصحاب طريقته مثل القشيري وأبي بكر ابن العربي: أن ذنب الإشراك لا عذر فيه لصاحبه لأن توحيد الله قد دعي إليه الأنبياء والرسل من عهد آدم بحيث لا يعذر بجهله عاقل فإن الله قد وضعه في الفطرة إذ أخذ عهده به على ذرية آدم كما أشار إليه قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} كما بيناه في سورة [الأعراف: 172].
ولكن الله يرأف بعباده إذا طالت السنون وانقرضت القرون وصار الناس مظنة الغفلة فيتعهدهم ببعثة الرسل للتذكير بما في الفطرة وليشرعوا لهم ما به صلاح الأمة.
فالمشركون الذين انقرضوا قبل البعثة المحمدية مؤاخذون بشركهم ومعاقبون عليه في الآخرة ولو شاء الله لعاقبهم عليه بالدنيا بالاستئصال ولكن الله أمهلهم، والمشركون الذين جارتهم الرسل ولم يصدقوهم مستحقون عذاب الدنيا زيادة على عذاب الآخرة، قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} [السجدة: 21].
وأما الفِرَق الذين يُعدّون دليل توحيد الله بالإلهية عقليًا مثل الماتريدية والمعتزلة فمعنى الآية على ظاهره، وهو قول ليس ببعيد. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} [القصص: 43] قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، يعني: أن موسى- عليه السلام- جاء بَرْزخًا وواسطة بين رسل كذَّبتهم أممهم، فأخذهم الله بالعذاب، ولم يقاتل الرسل قبل موسى، إنما كان الرسول منهم يُبلِّغ الرسالة ويُظهر الحجة، وكانوا هم يقترحون الآيات، فإنْ أجابهم الله وكذَّبوا أوقع الله بهم العذاب.
كما قال سبحانه: {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
وهذا كله عذاب استئصال، لا يُبقي من المكذبين أحدًا.
ثم جاء موسى- عليه السلام- برزخًا بين عذاب الاستئصال من الله تعالى للمكذِّبين دون تدخُّل من الرسل في مسألة العذاب، وبين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أمره الله بقتال الكفار والمكذّبين دون أن ينزل بهم عذاب الاستئصال، ذلك لأن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة، وهو صلى الله عليه وسلم مأمون على حياة الخَلْق أجمعين.
لذلك يقول تعالى في مسألة القتال في عهد موسى عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى} [البقرة: 246] إنما في عهده وعصره {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ} [البقرة: 246].
وقد ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عذَّب الله قومًا ولا قرنًا، ولا أمة، ولا أهلَ قرية منذ أنزل الله التوراة على موسى».
كأن عذاب الاستئصال انتهى بنزول التوراة، ولم يستثْن من ذلك إلا قرية واحدة هي أيلة التي بين مدين والأردن.
والحق- تبارك وتعالى- يعطينا أول تجربة لمهمة، وتدخّل الرسل في قصة موسى عليه السلام.
وروُى عن أبي أمامة أنه قال: وإني لتحت رَحْل رسول الله- يعني: ممسكًا برحْل ناقة الرسول- يوم الفتح، فسمعته يقول كلامًا حسنًا جميلًا، وقال فيما قال: «أيُّما رجل من أهل الكتاب يؤمن بي فَلَهُ أجران- أي: أجر إيمانه بموسى، أو بعيسى، وأجر إيمانه بي- له ما لنا وعليه ما علينا».
وهذا يعني أن القتال لم يكُنْ قد كُتِب عليهم.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} [القصص: 43] أي التوراة: {مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} [القصص: 43] أي: بدون تدخُّل الأنبياء {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} [القصص: 43] أي: آتيناه الكتاب ليكون نورًا يهديهم، وبصيرة ترشدهم، وتُنير قلوبهم {وَهُدًى وَرَحْمَةً} [القصص: 43] هدى إلى طريق الخير ورحمة تعصم المجتمع من فساد المناهج الباطلة، وتعصمهم أن يكونوا من أهل النار {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43].
والتذكر يعني: أنه كان لديك قضية، ثم نسيتها فاحتجْتَ لمن يُذكرك بها، فهي ليست جديدة عليك، هذه القضية هي الفطرة: {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30].
لكن هذه الفطرة السليمة تنتابها شهوات النفس ورغباتها، وتطرأ عليها الغفلة والنسيان؛ لذلك يذكِّر الحق سبحانه الناس بما غفلوا عنه من منهج الحق، إذن: في الفطرة السليمة المركوزة في كل نفس مُقوِّمات الإيمان والهداية، لولا غفلة الإنسان.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي}.
قوله: {بِجَانِبِ الغربي} [القصص: 44] أي: الجانب الغربي من البقعة المباركة من الشجرة، وهو المكان الذي كلَّم الله فيه موسى وأرسله {إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] يعني: أمرناه به أمرًا مقطوعًا به، وهو الرسالة.
{وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44].
ولك أنْ تسأل: إذا لم يكُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدًا لهذه الأحداث، فمَنْ أخبره بها؟ نقول: أخبره الله تعالى، فإنْ قُلْت فربما أخبره بها شخص آخر، أو قرأها في كتب السابقين.
نقول: لقد شهد له قومه بأنه أُميٌّ، لا يقرأ ولا يكتب، ولم يُعْلَم عنه أنه جلس في يوم من الأيام إلى مُعلِّم، كذلك كانوا يعرفون سيرته في حياته وسفرياته ورحلاته، ولم يكُنْ فيها شيء من هذه الأحداث.
لذلك لما اتهموا رسول الله أنه جلس إلى معلم، وقالوا: كما حكى القرآن: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ردَّ القرآن عليهم في بساطة: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين تردد عليهما رسول الله. وكذلك كانت الأمة التي بُعِث فيها رسول الله أمة أمية، فمَّمن تعلَّم إذن؟
وإذا كانت الأمية صفة مذمومة ننفر منها، حتى أن أحد سطحيي الفهم يقول: لا تقولوا لرسول الله أميٌّ ونقول: إن كانت الأمية مَذمَّة، فهي ميزة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمي يعني المنسوب إلى الأم وما يزال على طبيعته لا يعرف شيئًا.
واقرأ قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] ونقول في المثل فلان زي ما ولدتْه أمه يعني: لا يعرف شيئًا، وهذه مذمة في عامة البشر؛ لأنه لم يتعلم ممَّنْ حوله، ولم يستفِدْ من خبرات الحياة.