فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى}.
الفاء فصيحة كالفاء في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يُراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وتقدير الكلام: فإن كان من معذرتهم أن يقولوا ذلك فقد أرسلنا إليهم رسولًا بالحق فلما جاءهم الحق لفقوا المعاذير وقالوا: لا نؤمن به حتى نؤتى مثل ما أوتي موسى.
و{الحق} هو ما في القرآن من الهدى.
وإثبات المجيء إليه استعارة بتشبيه الحق بشخص وتشبيه سماعه بمجيء الشخص، أو هو مجاز عقلي وإنما الجائي الرسول الذي يبلغه عن الله، فعبر عنه بالحق لإدماج الثناء عليه في ضمن الكلام.
ولما بهرتهم آيات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجدوا من المعاذير إلا ما لقنهم اليهود وهو أن يقولوا: {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} أي بأن تكون آياته مثل آيات موسى التي يقصها عليهم اليهود وقص بعضها القرآن.
وضمير {يكفروا} عائد إلى القوم من قوله: {لتنذر قومًا} [القصص: 46] لتتناسق الضمائر من قوله: {ولولا أن تصيبهم} [القصص: 47] وما بعده من الضمائر أمثاله.
فيشكل عليه أن الذين كفروا بما أوتي موسى هو قوم فرعون دون مشركي العرب فقال بعض المفسرين هذا من إلزام المماثل بفعل مثيله لأن الإشراك يجمع الفريقين فتكون أصول تفكيرهم واحدة ويتحد بهتانهم، فإن القبط أقدم منهم في دين الشرك فهم أصولهم فيه والفرع يتبع أصله ويقول بقوله، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 52- 53] أي متماثلون في سبب الكفر والطغيان فلا يحتاج بعضهم إلى وصية بعض بأصول الكفر.
وهذا مثل قوله تعالى: {غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون} [الروم: 2- 3] ثم قال: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} [الروم: 4- 5] أي بنصر الله إياهم إذ نصر المماثلين في كونهم غير مشركين إذ كان الروم يومئذ على دين المسيح.
فقولهم {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} من باب التسليم الجدلي، أو من اضطرابهم في كفرهم فمرة يكونون معطلين ومرة يكونون مشترطين.
والوجه أن المشركين كانوا يجحدون رسالة الرسل قاطبة.
وكذلك حكاية قولهم {ساحران تظاهرا} من قول مشركي مكة في موسى وهارون لما سمعوا قصتهما أو في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وهو الأظهر وهو الذي يلتئم مع قوله بعده {وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} [القصص: 48 49].
وقرأ الجمهور {ساحران} تثنية ساحر.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {قالوا سِحْران} على أنه من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أي قالوا: هما ذوا سحر.
والتظاهر: التعاون.
والتنوين في {بكل} تنوين عِوض عن المضاف إليه فيقدر المضاف إليه بحسب الاحتمالين إما بكل من الساحرين، وإما أن يقدر بكل من ادعى رسالة وهو أنسب بقول قريش لأنهم قالوا {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91].
{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)}.
أي أجب كلامهم المحكي من قولهم {ساحران} [القصص: 48] وقولهم {إنا بكل كافرون} [القصص: 48].
ووصف كتاب ب {من عند الله} إدماج لمدح القرآن والتوراة بأنهما كتابان من عند الله.
والمراد بالتوراة ما تشتمل عليه الأسفار الأربعة المنسوبة إلى موسى من كلام الله إلى موسى أو من إسناد موسى أمرًا إلى الله لا كل ما اشتملت عليه تلك الأسفار فإن فيها قصصًا وحوادث ما هي من كلام الله.
فيقال للمصحف هو كلام الله بالتحقيق ولا يقال لأسفار العهدين كلام الله إلا على التغليب إذ لم يدع ذلك المرسلان بكتابي العهد.
وقد تحداهم القرآن في هذه الآية بما يشتمل عليه القرآن من الهدى ببلاغة نظمه.
وهذا دليل على أن مما يشتمل عليه من العلم والحقائق هو من طرق إعجازه كما قدمناه في المقدمة العاشرة.
فمعنى {فإن لم يستجيبوا لك} إن لم يستجيبوا لدعوتك، أي إلى الدين بعد قيام الحجة عليهم بهذا التحدي، فاعلم أن استمرارهم على الكفر بعد ذلك ما هو إلا اتباع للهوى ولا شبهة لهم في دينهم.
ويجوز أن يراد بعدم الاستجابة عدم الإتيان بكتاب أهدى من القرآن لأن فعل الاستحابة يقتضي دعاء ولا دعاء في قوله: {فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} بل هو تعجيز، فالتقدير: فإن عجزوا ولم يستجيبوا لدعوتك بعد العجز فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، أي لا غير.
واعلم أن فعل الاستجابة بزيادة السين والتاء يتعدى إلى الدعاء بنفسه ويتعدى إلى الداعي باللام، وحينئذ يحذف لفظ الدعاء غالبًا فقلما قيل: استجاب الله له دعاءه، بل يقتصر على: استجاب الله له، فإذا قالوا: دعاه فاستجابه كان المعنى فاستجاب دعاءه.
وهذا كقوله: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} في سورة [هود: 14].
و{أنما} المفتوحة الهمزة تفيد الحصر مثل إنما المكسورة الهمزة لأن المفتوحة الهمزة فرع عن المكسورتها لفظًا ومعنى فلا محيص من إفادتها مفادها، فالتقدير فاعلم أنهم ما يتبعون إلا أهواءهم.
وجيء بحرف إن الغالب في الشرط المشكوك على طريقة التهكم أو لأنها الحرف الأصلي.
وإقحام فعل {فاعلم} للاهتمام بالخبر الذي بعده كما تقدم في قوله تعالى: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} في سورة [الأنفال: 24].
وقوله: {أتبعه} جواب {فأتوا} أي إن تأتوا به أتبعه، وهو مبالغة في التعجيز لأنه إذا وعدهم بأن يتبع ما يأتون به فهو يتبعهم أنفسهم وذلك مما يوفر دواعيهم على محاولة الإتيان بكتاب أهدى من كتابه لو استطاعوه فإن لم يفعلوا فقد حق عليهم الحق ووجبت عليهم المغلوبية فكان ذلك أدل على عجزهم وأثبت في إعجاز القرآن.
وهذا من التعليق على ما تحقق عدم وقوعه، فالمعلق حينئذ ممتنع الوقوع كقوله.
{قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81].
ولكونه ممتنع الوقوع أمر الله رسوله أن يقوله.
وقد فهم من قوله: {فإن لم يستجيبوا} ومن إقحام {فاعلم} أنهم لا يأتون بذلك البتة وهذا من الإعجاز بالإخبار عن الغيب.
وجاء في آخر الكلام تذييل عجيب وهو أنه لا أحد أشد ضلالًا من أحد اتبع هواه المنافي لهدى الله.
و{من} اسم استفهام عن ذات مبهمة وهو استفهام الإنكار فأفاد الانتفاء فصار معنى الاسمية الذي فيه في معنى نكرة في سياق النفي أفادت العموم فشمل هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغيرهم.
وبهذا العموم صار تذييلًا وهو كقوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} في سورة [البقرة: 140].
وأطلق الاتباع على العمل بما تمليه إرادة المرء الناشئة عن ميله إلى المفاسد والأضرار تشبيهًا للعمل بالمشي وراء السائر، وفيه تشبيه الهوى بسائر، والهوى مصدر لمعنى المفعول كقول جعفر بن عُلبة:
هواي مع الركب اليمانين مصعد.
وقوله: {بغير هدى من الله} الباء فيه للملابسة وهو في موضع الحال من فاعل {اتبع هواه} وهو حال كاشفة لتأكيد معنى الهوى لأن الهوى لا يكون ملابسًا للهدى الرباني ولا صاحبه ملابسًا له لأن الهدى يرجع إلى معنى إصابة المقصد الصالح.
وجعل الهدى من الله لأنه حق الهدى لأنه وارد من العالم بكل شيء فيكون معصومًا من الخلل والخطأ.
ووجه كونه لا أضل منه أن الضلال في الأصل خطأ الطريق وأنه يقع في أحوال متفاوتة في عواقب المشقة أو الخطر أو الهلاك بالكلية، على حسب تفاوت شدة الضلال.
واتباع الهوى مع إلغاء إعمال النظر ومراجعته في النجاة يلقي بصاحبه إلى كثير من أحوال الضرّ بدون تحديد ولا انحصار.
فلا جرم يكون هذا الاتباع المفارق لجنس الهدى أشد الضلال فصاحبه أشد الضالين ضلالًا.
ثم ذيل هذا التدييل بما هو تمامه إذ فيه تعيين هذا الفريق المبهم الذي هو أشد الضالين ضلالًا فإنه الفريق الذين كانوا قومًا ظالمين، أي كان الظلم شأنهم وقوام قوميتهم ولذلك عبر عنهم بالقوم.
والمراد بالظالمين: الكاملون في الظلم، وهو ظلم الأنفس وظلم الناس، وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان، فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقابًا منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه، فهم أضل الضالين، وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفاوتهم في التصلب في ظلمهم؛ فقد يستمر أحدهم زمانًا على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان.
ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس في الاستعداد لقبول الهدى، فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني.
وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة.
وهذا معنى قول الأيمة من الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي.
وبين {هواه} و{هدى} جناس محرف وجناس خط. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا} [القصص: 48] أي الرسول الذي طلبوه {قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} [القصص: 48] سبحان الله، إنْ كنتَ كذوبًا فكُنْ ذَكُورًا، لقد طلبتم مجرد الرسول ولم تطلبوا معه معجزة معينة فقلتم: {رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص: 47] والآن تطلبون آيات حِسيِّة كالتي أرسل بها موسى من قبل.
والمتأمل يجد أن الآيات قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانت آيات حِسيِّة كونية، مثل سفينة نوح عليه السلام، وناقة صالح عليه السلام، وعصا موسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلام. وهذه كلها معجزات حسية تنتهي بانتهاء وقتها، فهي مناسبة للرسل المحدودي الزمن، والمحدودي المكان.