فصل: (سورة القصص: آية 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة القصص: آية 37]:

{وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)}.
يقول: {رَبِّي أَعْلَمُ} منكم بحال من أهله اللّه للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى: يعنى نفسه، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غنى حكيم لا يرسل الكاذبين، ولا ينئى الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون. وعاقِبَةُ الدَّارِ هي العاقبة المحمودة. والدليل عليه قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت. فإن قلت: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت: قد وضع اللّه سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة، وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها اللّه فقد حرف، فإذا عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير. وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار. وقرأ ابن كثير: {قالَ مُوسى} بغير واو، على ما في مصاحف أهل مكة، وهي قراءة حسنة، لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة: سحرا مفترى.
ووجه الأخرى: أنهم قالوا ذلك، وقال موسى عليه السلام هذا، ليوازن الناظر بين القول والمقول، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر:
وبضدّها تتبيّن الأشياء

وقرئ {تكون} بالياء والتاء.

.[سورة القصص: آية 38]:

{وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38)}.
روى أنه لما أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبنى، فبعث اللّه تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك. ويروى في هذه القصة: أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء، فأراد اللّه أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعندها بعث اللّه جبريل عليه السلام لهدمه، واللّه أعلم بصحته. قصد بنفي علمه بإله غيره: نفى وجوده، معناه: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} كما قال اللّه تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} معناه بما ليس فيهن، وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجود. فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده. وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده. ويجوز أن يكون على ظاهره، وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده، ولكنه مظنون بدليل قوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ} وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا، فقد ظنّ أن في الوجود إلها غيره، ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين، بل عالما بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ} لما تكلف ذلك البنيان العظيم، ولما تعب في بنائه ما تعب، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وإن كان جاهلا مفرط الجهل به وبصفاته، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض. ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم: من أنهم راموا نيل أسباب السماوات بصرح يبنونه، وليت شعري، أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك سن عقولهم، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم، فنهكم به بالفعل، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب اللّه بنظرائه من الكفرة. ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين، كقوله:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج

ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم.
أو لم تخف عليهم، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه، وإنما قال: {فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ} ولم يقل: اطبخ لي الآجر واتخذه، لأنه أوّل من عمل الآجر، فهو يعلمه الصنعة، ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة. وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا في وسط الكلام: دليل التعظيم والتجبر. وعن عمر رضى اللّه عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال: ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون. والطلوع والإطلاع: الصعود. يقال: طلع الجبل وأطلع: بمعنى.

.[سورة القصص الآيات: 39- 40]:

{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}.
الاستكبار بالحق: إنما هو للّه تعالى، وهو المتكبر على الحقيقة، أى: المتبالغ في كبرياء الشأن. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما حكى عن ربه: «الكبرياء ردائي والعظمة إزارى، فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته في النار». وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق يُرْجَعُونَ بالضم والفتح {فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ} من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه. شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر. ونحو ذلك قوله: {وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ} {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً} {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره، وأن كل مقدور وإن عظم وجل، فهو مستصغر إلى جنب قدرته.

.[سورة القصص الآيات: 41- 42]:

{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}.
فإن قلت: ما معنى قوله: {وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}؟ قلت: معناه: ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، كما يدعى خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة. وهو من قولك: جعله بخيلا وفاسقا، إذا دعاه وقال: إنه بخيل وفاسق. ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا} ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ} كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة. ويجوز: خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر. ومعنى الخذلان:
منع الألطاف، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغنى عنه الآيات والنذر، ومجراه مجرى الكناية، لأنّ منع الألطاف يردف التصميم، والغرض بذكره:
التصميم نفسه، فكأنه قيل: صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته.
فإن قلت: فأى فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت: ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده، فيكون أقوى لإثباته من ذكره. ألا ترى أنك تقول: لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة، وهو قيام الحجة على وجوده.
وينصر هذا الوجه قوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كأنه قيل. وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون، كما قال: {وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً} أى طردا وإبعادا عن الرحمة {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أى من المطرودين المبعدين.

.[سورة القصص: آية 43]:

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}.
بَصائِرَ نصب على الحال. والبصيرة: نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به، يريد: آتيناه التوراة أنوارا للقلوب، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف حقا من باطل. وإرشادا، لأنهم كانوا يخبطون في ضلال وَرَحْمَةً لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إرادة أن يتذكروا. شبهت الإرادة بالترجى فاستعير لها.
ويجوز أن يراد به ترجى موسى عليه السلام لتذكرهم، كقوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ}.

.[سورة القصص: آية 44]:

{وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}.
{الْغَرْبِيِّ} المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب اللّه له في الألواح. والأمر المقضى إلى موسى عليه السلام: الوحى الذي أوحى إليه، والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام، ولا كنت مِنَ جملة الشَّاهِدِينَ للوحى إليه، أو على الوحى إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته. وكتبة التوراة له في الألواح، وغير ذلك.

.[سورة القصص: آية 45]:

{وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)}.
فإن قلت: كيف يتصل قوله: {وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا} بهذا الكلام؟ ومن أى وجه يكون استدراكا له؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكا له، من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا كثيرة {فَتَطاوَلَ} على آخرهم: وهو القرن الذي أنت فيهم {الْعُمُرُ} أى أمد انقطاع الوحى واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحينا إليك. فذكر سبب الوحى الذي هو إطالة الفترة، ودلّ به على المسبب على عادة اللّه عز وجل في اختصاراته، فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده وَما كُنْتَ ثاوِيًا أى مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب والمؤمنون به {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} تقرؤها عليهم تعلما منهم، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه، ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها.

.[سورة القصص: آية 46]:

{وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}.
{إِذْ نادَيْنا} يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه، ولكِنْ علمناك {رَحْمَةً} وقرئ: {رحمة} بالرفع: أى هي رحمة {ما أَتاهُمْ من نذير} في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة، ونحوه قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ}.