فصل: تفسير الآية رقم (207):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (207):

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أتم الخبر عن هذا القسم الذي هو شر الأقسام أتبعه خيرها ليكون ختامًا وبينهما تباين فإن الأول من يهلك الناس لاستبقاء نفسه وهذا يهلك نفسه لاستصلاح الناس فقال: {ومن الناس من} أي شخص أو الذي {يشري} أي يفعل هذا الفعل كلما لاح له وهو أنه يبيع بغاية الرغبة والانبعاث {نفسه} فيقدم على إهلاكها أو يشتريها بما يكون سبب إعتاقها وإحيائها بالاجتهاد في أوامر الله بالنهي لمثل هذا الألد عن فعله الخبيث والأمر له بالتقوى والتذكير بالله، وروي أنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لأنه لما هاجر أرادت قريش رده فجعل لهم ماله حتى خلوا سبيله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع» فعلى هذا يكون شرى بمعنى اشترى، ثم علل ذلك بقوله: {ابتغاء} أي تطلب وتسهل وتيسر بغاية ما يمكن أن يكون كل من ذلك {مرضات الله} أي رضى المحيط بجميع صفات الكمال وزمان الرضى ومكانه بما دل عليه كون المصدر ميميًا ويكون ذلك غاية في بابه بما دل عليه من وقفه بالتاء الممدودة لما يعلم من شدّة رحمة الله تعالى به {والله رؤوف} أي بالغ الرحمة، وأظهر موضع الإضمار دلالة على العموم وعلى الوصف المقتضي للرحمة والشرف فقال: {بالعباد} كلهم حيث أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به أو تقصيرهم في أمره، وبين لهم الطريق غاية البيان بالعقل أولًا والرسل ثانيًا والشرائع ثالثًا والكتب الحافظة لها رابعًا، ولعل الفصل بين الأقسام الأربعة بالأيام المعدودات اهتمامًا بأمرها لكونها من فعل الحج وتأخيرها عن أخواتها إشارة إلى أنها ليست من دعائم المناسك بل تجبر بدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

هذا قسيم {ومن الناس من يعجبك قوله} [البقرة: 204] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعابًا لقسمي الناس، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{مرضاة} بالإمالة والوقف بالهاء: علي. وكذلك يقف على {هيهات} هيهاه وعلى {حدائق ذات} ذاه وعلى {أفرأيتم اللات} اللاه وعلى {ولات حين} ولاه، وعلى {مريم ابنة} ابنه. وافق أبو عمر وفي {ولات حين} بالهاء {لسلم} بفتح السين. أبو جعفر ونافع وابن كثير وعلي. الباقون: بالكسر. {والملائكة} بالجر: يزيد عطفًا على {ظلل} أو على {الغمام} أو للجوار وإن كان فاعل {يأتهم}. الباقون: بالرفع {ترجع الأمور} حيث كان بفتح التاء وكسر الجيم: حمزة وعلي وخلف وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون: بضم التاء وفتح الجيم.

.الوقوف:

{قلبه} لا لأن الواو للحال {الخصام} O {والنسل} ط {الفساد} ط {جهنم} ط {المهاد} O {مرضات الله} ط {بالعباد} O {كافة} ص لعطف الجملتين المتفقتين {الشيطان} ط مع احتمال الجواز {مبين} O {حكيم} O {وقضى الأمر} ط {الأمور} O. اهـ.

.سبب النزول:

.قال الفخر:

في سبب النزول روايات أحدها: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه، وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الأرت، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم، فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير، ولي مال ومتاع، ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني، فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله، فانصرف راجعًا إلى المدينة، فنزلت الآية، وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له: ربح بيعك، فقال له صهيب: وبيعك فلا نخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية، وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا، وفيهم نزل قول الله تعالى: {والذين هاجروا في الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [النحل: 41] بتعذيب أهل مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في الدنيا حَسَنَةً} [النحل: 41] بالنصر والغنيمة، ولأجر الآخرة أكبر، وفيهم نزل: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] والرواية الثانية: أنها نزلت في رجل أمر بمعروف ونهى عن منكر، عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم.
والرواية الثالثة: نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في سرية الرجيع وكانت بعد أحد.
عن أبي هريرة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينًا وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلًا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذه تمر يثرب، فتبعوا أثرهم حتى لحقوهم.
فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهم: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها فأعارتها، فقالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى، فقال: أتخشين مني أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك أن شاء الله تعالى وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذٍ تمرة، وإنه لموثق في الحديد. وما كان إلاّ رزقًا رزقه الله خبيبًا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين ثم انصرف فقال: لولا ترون أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن ركعتين عند القتل، وقال: اللهم أحصهم عددًا وقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ** على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلوٍ ممزع

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء زاد في رواية وأخبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، الفدفد: الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. وقوله عالجوه: أي مارسوه، وأراد به أنهم يخدعونه ليتبعهم فأبى. وقوله ليستحد الاستحداد حلق العانة. والقطف العنقود من العنب: قوله على أوصال شلو. الشلو العضو من أعضاء الإنسان. والممزع: المفرق. والظلة: الشيء الذي يظل من فوق الإنسان. والدبر: جماعة النحل والزنابير. وقال أهل التفسير: إن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرًا من علماء أصحابك يعلمونا دينك، وكان ذلك مكرًا منهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكر وعبدالله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي أفلح الأنصاري، وذكر نحو حديث البخاري، زاد عليه: فقالوا: نصلب خبيبًا حيًا، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، فقام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب: اتق الله، فما زاده ذلك إلاّ عتوًا فطعنه فأنفذه فذلك قوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} يعني سلامان.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله في الحل، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب محمدًا عندنا الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك قال زيد والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا ثم قتله نسطاس، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم ينزل خبيبًا عن خشبته وله الجنة فقال الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجنا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلًا، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نشاوى وهم نيام، فأنزلاه عن خشبته، فإذا هو رطب ينثني ولم يتغير منه شيء بعد أربعين يومًا ويده على جراحته وهي تبض دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبًا فأخبروا قريشًا فركب معهم سبعون فارسًا فلما لحقوهم قذف الزبير خبيبًا فابتلعته الأرض فسمي بليغ الأرض وقال الزبير ما أجرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما. فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة، وقدم الزبير وصاحبه المقداد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد أن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، ونزل في الزبير والمقداد: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته. وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وإنما نسب إلى الروم لأن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوه وهو غلام صغير فنشأ بالروم، وإنما كان من العرب ابن النمر بن قاسط قال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته وقال: والله لا تصلوا إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي.
فقالوا نعم، ففعل، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربح البيع أبا يحيى، وتلا عليه هذه الآية. وقال الحسن: أتدرون فيم نزلت هذه الآية؟ نزلت في المسلم يلقي الكافر فيقول له قل: لا إله إلاّ الله فيأبى أن يقولها فيقولها المسلم والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل وحده حتى قتل، نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن عباس: رضي الله عنهما: أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله، وكان علي كرم الله وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة. وسمع عمر رجلًا يقرأ هذه الآية: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل. عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. اهـ.