فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} وقوله: {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم}.
والخصلة الثالثة: درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34]، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس، وإسداء الخير إلى نفس أخرى، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي {سلام عليكم}.
وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر.
والخصلة الخامسة: الإعراض عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولُبّه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك.
والخصلة السادسة: الكلام الفصل وهو قولهم {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم} وهذا من أحسن ما يجاب به السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم.
ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تُنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرّفها بأن حيكت في نسج القرآن، كما ألهم عمر قوله.
{عسى ربه إن طلقكن} [التحريم: 5] الآية.
ومعنى {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أن أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها وأما قولهم {ولكم أعمالكم} فهو تتميم على حد {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6].
والمقصود من السلام أنه سلام المتاركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم قال الحسن: كلمة: السلام عليكم، تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين.
ولعل القرآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز لأن تأخير الكلام الذي فيه المتاركة. إلى آخر الخطاب أولى ليكون فيه براعة المقطع.
وحذف القرآن قولهم: لم نأل أنفسنا رشدًا، للاستغناء عنه بقولهم {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}.
السابعة: ما أفصح عنه قولهم {لا نبتغي الجاهلين} من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق.
والجملة تعليل للمتاركة، أي لأنا لا نحب مخالطة أهل الجهالة بالله وبدين الحق وأهل خُلق الجهل الذي هو ضد الحلم، فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بذا عليهم بلسانه.
والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه بقرينة قوله: {ويدرأون بالحسنة السيئة} وقوله: {سلام عليكم} وبذلك يكون القول المحكي قولين: قول وجهوه لأبي جهل وصحبه، وقول دار بين أهل الوفد. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}.
كلمة {وَصَّلْنَا} [القصص: 51] تُشعر بأشياء، انفصل بعضها عن بعض، ونريد أنْ نُوصِّلها، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 51] أي: وصَّلنا لهم الرسالات، فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم الله برسالة أخرى ليظلَّ الخَلْق مُتصلِين بهدي الخالق وبمنهجه، أو: أن الأمر خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى وصَّلنا له الآيات، فكلما نزل عليه نجم من القرآن وصَّلنا بنجم آخر حسب الأحداث.
لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول الله، حين قالوا كما حكى عنهم القرآن {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] فردَّ عليهم القرآن ليبين لهم حكمة نزوله مُنجَّمًا: {كَذَلِكَ} [الفرقان: 32] أي: أنزلناه كذلك مُنجَّمًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول الله مرة واحدة، وهو محتاج إلى تثبيت مستمر مع الأحداث التي سيتعرَّض لها، فيوصل الله له الآيات ليظل على ذَكْر من سماع كلام ربه كلما اشتدتْ به الأحداث، فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلِّيه، ويُسرِّي عنه ما يلاقي من خصومه.
وحكمة أخرى في قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] فكلما نزل قِسْط من القرآن سَهُلَ عليهم حفظه وترتيبه والعمل به، كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا، وسوف يسألون فيها رسول الله، فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة.
لابُدَّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى، فكيف تتأتى لنا الإجابة لو جاء القرآن كما تقولون جملة واحدة، ثم سبحان الله هل اطقتموه مُنجمًَّا حتى تطلبوه جملة واحدة؟
ثم تختم الآية بحكمة أخرى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 51] فكلما نزل نجم من القرآن ذكَّرهم بما غفلوا عنه من منهج الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {الذين آتَيْنَاهُمُ}.
كأن الحق- تبارك وتعالى- يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سأجعل خصومك من أهل الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لأنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم، وما جاء في كتابك ذُكرَ في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم.
لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب الله تُعوِّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن، يقول تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
فهم أيضًا شهداء على صدق رسول الله بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم.
ويقول تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 16- 19].
ويقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ} [آل عمران: 199].
وإلا، فلماذا أسلم عبد الله بن سلام وغيره من علماء اليهود؟
إذن: أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم لابد أنْ يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل الإسلام، سيادةً في العلم، وفي الحرب، وفي الثروة.
وكان من هؤلاء عبد الله بن أُبَيٍّ، وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكًا عليهم، فلما هاجر سيدنارسول الله إليها أفسد عليهم ما يريدون، ونزع منهم هذه السيادة، والسلطة الزمنية حينما تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات الله لخدمة أهوائهم، لا لخدمة مرادات الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ}.
هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يُتْلَى عليهم القرآن قالوا: آمنا به، وشَهِدوا له أنه الحق من عند الله، وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيمانًا، فهم كانوا من قبله مسلمين، فقد آمنوا أولًا بكتبهم، وآمنوا كذلك بالقرآن.
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)}.
الحق- سبحانه وتعالى- يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد دينًا حقًا لابد أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة، لأنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين.
هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل، فالمسألة واضحة؛ لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد دينًا {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التوراة} [الأعراف: 157].
آمنوا به؛ لأنهم وجدوا نَعْته، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئًا من هذا، فأخذوا من أميته دليلًا على صِدْقه.
فقوله تعالى: {أولئك} [القصص: 54] أي: أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله، والذين سبق وصفهم {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54] أجر لإيمانهم برسلهم، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لذلك جاء في الحديث الشريف: «ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَة- جارية- فأدَّبها فأحسن تأديبها، فأعتقها بعد ذلك، ثم تزوجها».
وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، وهذه هي حيثية {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54].
وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين، ومنهم- كما بيَّن سيدنا رسول الله: «عبد مملوك أدى حق الله، وأدَّى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَةٌ».
ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام، وأتى قبله، وهو المسيحية، فلهم ذلك أيضًا؛ لذلك يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] وأهم هذه المنافع {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25] وذكر الحديد، لأن منه سيصنع سلاح الحرب.
إذن: أنزل الله القرآن لمهمة، وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعر:
فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أَوْ حَدٌّ مُرْهَف ** يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍ

فَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ ** وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهل

ولي أنا شخصيًا ذكريات ومواقف مع هذه الآية {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر، كان دائمًا يُواسي المسلمين، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن، وكانت تعلَق بذهنه بعض الآيات، فجاءني مرة يقول: سمعت المقريء يقرأ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فألسنا من العالمين، قلت له: نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعًا، فمَنْ آمن به نالته رحمته، ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها، ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعانٍ وتبصُّر تجد أنه رحِم غير المؤمن، قال: كيف؟ فقرأتُ له قوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [النساء: 105] ولم يقل بين المؤمنين {بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم، وأنْ يردَّ عليه حقَّه، ثم {واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 106] لأن الله لا يحب الخوَّان الأثيم ولو كان مسلمًا.
ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الآية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طعمة بن أبيرق المسلم، وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته، وأذاع أمره بين الناس، فقصَّ اليهودي ما كان من أمر طُعْمة بن أبيرق، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة؛ لأنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته.
وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم؛ لأنه حديث عهد بإسلام، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق، ومالوا إلى إدانة اليهودي، وفعلًا عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلًا يُخرجه من هذا المأزق، مع أنهم لا يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق.
وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي، فيقول له: هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].