فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحاصل الرد أنه لا وجه لخوف من التخطف إن أمنوا فإنهم لا يخافون منه وهم عبدة أصنام فكيف يخافون إذا أمنوا وضموا حرمة الإيمان إلى حرمة المقام {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ذلك فهو متعلق بقوله تعالى: {أَوَ لَمْ نُمَكّن}. إلخ.
وقيل: هو متعلق بقوله سبحانه: من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله عز وجل إذ لو علموا لما خافوا غيره، والأول أظهر، والكلام عليه أبلغ في الذم، وقرأ المنقري {نُتَخَطَّفْ} بالرفع كما قرىء في قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} [النساء: 78] برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ.
وقرأ نافع وجماعة عن يعقوب وأبو حاتم عن عاصم {تجبى} بتاء التأنيث، وقرىء {تجنى} بالنون من الجنى وهو قطع الثمرة وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم {وَمِن ثمرات} بضم الثاء والميم، وقرأ بعضهم {ثمرات} بفتح الثاء وإسكان الميم، ثم إنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس الله تعالى بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثيرًا من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واعتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم {فَتِلْكَ مساكنهم} التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها.
{لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ} من بعد تدميرهم {إِلاَّ قَلِيلًا} أي إلا زمانًا قليلًا إذ لا يسكنها إلا المارة يومًا أو بعض يوم أو إلا سكنًا قليلًا وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل: لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس.
وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلًا منها سكن وفيه بعد، {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم، وفي الكشاف أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثة إما مجرد انتقالها من أصحابها وإما إلحاقها بما خلقه الله تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك الله تعالى على ما كان أولًا وهذا معنى الإرث، وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين، أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على إسقاط {فِى} أي في معيشتها على مذهب الأخفش، أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت سنته عز وجل أن لا يهلكها {حتى يَبْعَثَ في أُمّهَا} أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى إليها {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} الناطقة بالحق ويدعهم إليه بالترغيب والترهيب، وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث إليهم رسولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك، وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل الأحكام فطنة وكيسًا فهم أقبل للدعوة وأشرف.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد بالقرى القرى التي كانت في عصره عليه الصلاة والسلام والأولى أولى، والالتفات إلى نون العظمة في آياتنا لتربية المهابة وإدخال الروعة وقرىء {فِى أُمّهَا} بكسر الهمزة اتباعًا للميم {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى} عطف على {مَا كَانَ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى} {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} استثناءً مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولًا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
لما ذكر معاذير المشركين وكفرهم بالقرآن، وأعلم رسوله أنهم يتبعون أهواءهم وأنهم مجردون عن هدى الله، ثم أثنى على فريق من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، وكان ذلك يحزن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض قريش وهم أخص الناس به عن دعوته أقبل الله على خطاب نبيئه صلى الله عليه وسلم بما يسلي نفسه ويزيل كمده بأن ذكّره بأن الهدى بيد الله.
وهو كناية عن الأمر بالتفويض في ذلك إلى الله تعالى.
والجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التوكيد اهتمام باستدعاء إقبال النبي عليه السلام على علم ما تضمنته على نحو ما قررناه آنفًا في قوله: {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} [القصص: 50].
ومفعول {أحببت} محذوف دل عليه {لا تهدي}.
والتقدير: من أحببت هديه أو اهتداءه.
وما صدق {من} الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه.
وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة.
قال الزجاج: أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب.
وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان بالله وحده.
قال القرطبي: وهو نص حديث البخاري ومسلم وقد تقدم ذلك في براءة.
وهذا من العام النازل على سبب خاص فيعمه وغيره وهو يقتضي أن تكون هذه السورة نزلت عقب موت أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب سنة ثلاث قبل الهجرة، أو كان وضع هذه الآية عقب الآيات التي قبلها بتوقيف خاص.
ومعنى {ولكن الله يهدي من يشاء} أنه يخلق من يشاء قابلًا للاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للإيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء، فالمراد الهداية بالفعل.
وأما قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52] فهي الهداية بالدعوة والإرشاد فاختلف الإطلاقان.
ومفعول فعل المشيئة محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي من يشاء اهتداءه، والمشيئة تعرف بحصول الاهتداء وتتوقف على ما سبق من علمه وتقديره.
وفي قوله: {وهو أعلم بالمهتدين} إيماء إلى ذلك، أي هو أعلم من كل أحد بالمهتدين في أحوالهم ومقادير استعدادهم على حسب ما تهيأت إليه فطرهم من صحيح النظر وقبول الخير واتقاء العاقبة والانفعال لما يلقى إليها من الدعوة ودلائلها.
ولكل ذلك حال ومدى ولكليهما أسباب تكوينية في الشخص وأسلافه وأسباب نمائه أو ضعفه من الكيان والوسط والعصر والتعقل.
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}.
هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق، فاعتذروا بهذه المعذرة، فروي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناسًا من قريش جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس أي أن جمعنا يشبعه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلة فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى.
والتخطف: مبالغة في الخطف، وهو انتزاع شيء بسرعة، وتقدم في قوله تعالى: {تخافون أن يتخطفكم الناس} في سورة الأنفال (26).
والمراد: يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم، فرد الله عليهم بأن قريشًا مع قلتهم عدًّا وعدة أتاح الله لهم بلدًا هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قرونًا طويلة، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله.
والتمكين: الجعل في مكان، وتقدم في قوله تعالى: {مكّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم} في سورة الأنعام (6)، وقوله في أول هذه السورة (6) {ونمكن لهم في الأرض} واستعمل هنا مجازًا في الإعداد والتيسير.
والجبي: الجمع والجلب ومنه جباية الخراج.
والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرمًا.
ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من ينفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار.
وهذا الإنكار يقتضي توبيخًا على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرمًا.
والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة {وقالوا}.
والتقدير: ونحن مكنا لهم حرمًا.
و{كل شيء} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل {كل} في معنى الكثرة.
و{رزقًا} حال من {ثمرات} وهو مصدر بمعنى المفعول.
ومعنى {من لدنا} من عندنا، والعندية مجاز في التكريم والبركة، أي رزقًا قدرناه لهم إكرامًا فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى.
وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالمنعم: وازع إبطال معذرتهم عن الكفر، ووازع التذكير بنعمة المكفور به.
وموقع الاستدراك في قوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} إذ التقدير: أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى كُنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفضضٍ إلى اعتداء العرب عليهم ظنًّا بأن حرمتهم بين العرب مزيّة ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب.
وفعل {لا يعلمون} منزَّل منزلة اللازم فلا يقدَّر له مفعول، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبّرون الأحوال.
ونُفِي العلم عن أكثرهم لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك.
ولو قدر لفعل {يعلمون} مفعول دل عليه الكلام، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة {إن نتبع الهُدى معك نُتَخطَّف من أرضنا}.
وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {تُجْبَى} بالمثناة الفوقية.
وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو {كل شيء} فأكسب المضاف تأنيثًا.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا}.
عطف على جملة {أوَ لم نمكّن لهم حرمًا آمنًا} [القصص: 57] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمِطوا النعمة وقابلوها بالبطر.