فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورد بأن التشبيه دل على أنهم غووا باختيار لا أن الإغواء إلجاء وقوله: إن كما غوينا فضلة فلا تصير ذاك أصلًا في الجملة ليس بشيء لأن الفضلات قد تلزم في بعض المواضع نحو زيد عمرو قائم في داره وقرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين {كَمَا غَوَيْنَا} بكسر الواو، قال ابن خالويه: وليس ذلك مختارًا لأن كلام العرب غويت من الضلالة وغويت بالكسر من البشم {تَبَرَّأْنَا} منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى من أنفسهم موجهين التبرؤ ومهيئين له {إِلَيْكَ} والجملة تقرير لما قبلها لأن الإقرار بالغواية تبرؤ في الحقيقة ولذا لم تعطف عليه وكذا قوله تعالى: {مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون في نفس الأمر والمآل أهواءهم، وقيل: ما مصدرية متصلة بقوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا} وهناك جار مقدر أي تبرأنا من عبادتهم إيانًا وجعلها نافية على أن المعنى ما كانوا يعبدوننا باستحقاق وحجة ليس بشيء وأيًا ما كان فإيانا مفعول يعبدون قدم للفاصلة.
{وَقِيلَ} تقريعًا لهم وتهكمًا بهم {ادعوا شُرَكَاءكُمْ} الذين زعمتم {فَدَعَوْهُمْ} لفرط الحيرة وإلا فليس هناك طلب حقيقة للدعاء، وقيل: دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلبًا، والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رءوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل: والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى: {فَدَعَوْهُمْ} أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والإشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة، وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك {وَرَأَوُاْ العذاب} الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك: هو للداعين والمدعوين جميعًا، وقيل: هو للمدعوين فقط وليس بشيء.
والظاهر أن الرؤية بصرية ورؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلًا بهم أو غاشيًا لهم أو نحو ذلك.
وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب مختلف في جوازه وتقدم آنفًا عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلًا بهم جعل متصلًا حالًا من العذاب {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب.
واعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفيًا وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى، وجوز أن تكون {لَوْ} للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب: فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كاقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم.
وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحمًا عليهم أو هو من الله تعالى شأنه على المجاز كما قيل: في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} [البقرة: 103]، وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول.
وقال عليه الرحمة: إن النظم على هذا الوجه ينطبق، واختار الإمام الرازي أنهاش رطية إلا أنه لم يرتض ما قالوه في تقدير الجواب فقال بعد نقل ما قالوه: وعندي أن الجواب غير محذوفة، وفي تقريره وجوه أحدها: أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله سبحانه: {ادعوا شُرَكَاءكُمْ} فهناك يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار فيصيرون بحيث لا يبصرون شيئًا، فقال سبحانه: ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يبصرون شيئًا على معنى أنهم لم يروا العذاب لأنهم صاروا بحيث لا يبصرون شيئًا، وثانيها: أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام إنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، والإتيان بمضير العقلاء على حسب اعتقاد القوم بهم، وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية اه ولعمري أنه لم يأت بشيء وما يرد عليه أظهر من أن يخفى على من له أدنى تمييز بين الحي واللي.
{وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} عطف على الأول سئلوا أولًا عن إشراكهم لأنه المقصود من {أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ} [القصص: 62]، وثانيًا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك.
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ} أصله فعموا عن الأنباء أي لم يهتدوا إليها، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدى بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالأنباء لأنها مسموعة لا مبصرة، وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من الخارج ونفس الأمر إما ابتداءً وإما بواسطة تذكر الصورة الواردة منه بأماراتها الخارجية فإذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل إليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار، وذلك لأنه لما جعل الأنباء الواردة عليهم من الخارج عميًا لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فإذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل: فليتدبر، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به، وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسئول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم.
وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {فَعُمّيَتْ} بضم العين وتشديد الميم.
{فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضًا لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل، والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة.
وقرأ طلحة {لا} بإدغام التاء في السين.
{فَأَمَّا مَن تَابَ} أي من الشرك {وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي جمع بين الإيمان والعمل الصالح {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي الفائزين بالمطلوب عنده عز وجل الناجين عن المهروب و{عَسَى} للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور بمعنى فليتوقع أن يفلح، وقوله تعالى: {فَأَمَّا} قيل لتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يئول إليه حال المشركين، وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون، والدلالة على ترتب الإخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها.
وقال الطيبي: هي متعلقة بقوله تعالى: {أَفَمَن وعدناه وَعْدًا حَسَنًا} [القصص: 61] والحديث عن الشركاء مستطرد لذكر الإحضار، وتعقبه في الكشف بأن الظاهر أنه ليس متعلقًا به بل لما ذكر سبحانه حال من حق عليه القول من التابع والمتبوع قال تعالى شأنه حثًا لهم على الإقلاع: {فَأَمَّا مَن تَابَ مِنْهُمْ وَامَنَ} فكأنه قيل: ما ذكر لمصيرهم فأما من تاب فكلا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا}.
لما ذكرهم الله بنعمه عليهم تذكيرًا أدمج في خلال الرد على قولهم {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} [القصص: 57] بقوله: {تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا} [القصص: 57] أعقبه بأن كل ما أوتوه من نعمة هو من متاع الحياة الدنيا كالأمن والرزق، ومن زينتها كاللباس والأنعام والمال، وأما ما عند الله من نعيم الآخرة من ذلك وأبقى لئلا يحسبوا أن ما هم فيه من الأمن والرزق هو الغاية المطلوبة فلا يتطلبوا ما به تحصيل النعيم العظيم الأبدي، وتحصيله بالإيمان.
ولا يجعلوا ذلك موازنًا لاتباع الهدى وإن كان في اتباع الهدى تفويت ما هم فيه من أرضهم وخيراتها لو سلم ذلك.
هذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها.
و{من شيء} بيان ل {ما أوتيتم} والمراد من أشياء المنافع كما دل عليه المقام لأن الإيتاء شائع في إعطاء ما ينفع.
وقد التفت الكلام من الغيبة من قوله: {أوَ لم نُمكن لهم حرمًا} [القصص: 57] إلى الخطاب في قوله: {أوتيتم} لأن ما تقدم من الكلام أوجب توجيه التوبيخ مواجهة اليهم.
والمتاع: ما ينتفع به زمنًا ثم يزول.
والزينة: ما يحسن الأجسام.
والمراد بكون ما عند الله خيرًا، أن أجناس الآخرة خير مما أوتوه في كمال أجناسها، وأما كونه أبقى فهو بمعنى الخلود.
وتفرع على هذا الخبر استفهام توبيخي وتقريري على عدم عقل المخاطبين لأنهم لما لم يستدلوا بعقولهم على طريق الخير نزّلوا منزلة من أفسد عقله فسئلوا: أهم كذلك؟.
وقرأ الجمهور {تعقلون} بتاء الخطاب.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يعقلون} بياء الغيبة على الالتفات عن خطابهم لتعجب المؤمنين من حالهم، وقيل: لأنهم لما كانوا لا يعقلون نزلوا منزلة الغائب لبعدهم عن مقام الخطاب.
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}.
أحسب أن موقع فاء التفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} [القصص: 60] ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف في حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين} [المطففين: 31] أي منعمين، وقال: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلًا} [المزمل: 11] فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} [هود: 116] وقال: {وارجعوا إلى ما أترفتم فيه} [الأنبياء: 13] فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل، قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين، وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بيانًا بأن ما أوتوه زائل زوالًا معوضًا بضد المتاع والزينة وذلك قوله: {ثم هو يوم القيامة من المحضرين}.
فما صدق {من} الأولى هم الذين وعدهم الله الوعد الحسن وهم المؤمنون، وما صدق {من} الثانية جمع هم الكافرون.
والاستفهام مستعمل في إنكار المشابهة والمماثلة التي أفادها كاف التشبيه فالمعنى أن الفريقين ليسوا سواء إذ لا يستوي أهل نعيم عاجل زائل وأهل نعيم آجل خالد.
وجملة {فهو لاقيه} معترضة لبيان أنه وعد محقق، والفاء للتسبب.
وجملة {ثم هو} الخ عطف على جملة {متعناه متاع الحياة الدنيا} فهي من تمام صلة الموصول.
و{ثم} للتراخي الرتبي لبيان أن رتبة مضمونها في الخسارة أعظم من مضمون التي قبلها، أي لم تقتصر خسارتهم على حرمانهم من نعيم الآخرة بل تجاوزت إلى التعويض بالعذاب الأليم.
ومعنى {من المحضرين} أنه من المحضرين للجزاء على ما دل عليه التوبيخ في {أفلا تعقلون} [القصص: 60].
والمقابلة في قوله: {أفمن وعدناه وعدًا حسنًا} المقتضية أن الفريق المعين موعودون بضد الحسن، فحذف متعلق {المحضرين} اختصارًا كما حذف في قوله: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} [الصافات: 57] وقوله: {فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين} [الصافات: 127- 128].