فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (القصص: 60) وفي سورة الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) يسأل عن زيادة قوله: {وَزِينَتُهَا} في الأولى؟ وعن تعقيبها بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وتعقيب الثانية بقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}؟
والجواب عن الأول: أن سورة القصص تضمنت ذكر قارون وما أتيه من المال الذي هو زينة الجياة الدنيا، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (القصص: 76) ثم أخبر تعالى عن زهوه واختياله بماله وظنه استحقاقه إياه، قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (القصص: 79) حتى قال من غفل عن آخرته ولم يعلم ما أعد الله فيها للمؤمنين: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} (القصص: 79) فقدم سبحانه للمعتبرين من عباده المؤمنين وتنبيهًا للغالفين لتحصل السلامة للسعداء ممن عصم بما ابتلى به قالرون فقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ}- أي المؤمنين- {خَيْرٌ وَأَبْقَى} (القصص: 60) وقد أخبرهم سبحانه في موضع آخر أن الدنيا وحياتها غرور، وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار، وبعد تحذير المؤمنين وردت قصة قارون فالتحمت الآية بتلك القصة، وقيل هنا: {وزينتها} كما قيل في تلك: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (القصص: 79) ومن الذي يعدل عما عند الله سبحانه إلى ما جعله تعالى سببًا لإهلاك المشركين؟ فتناسب هذا كله وتلاءم.
ولم يقع في آية الشورى ذكر {وزينتها} إذ لم يرد فيها ما ورد هنا مما استدعى هذه المناسبة، ولم يرد في سورة الشورى من أولها. إلى آخرها ذكر بسط حال دنياوي لأحد، بل تضمنت حقارة الدنيا ونزارة رزقها، وأنه مقدور غير مبسوط، وتلك حال الأكثر، فقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} (الشورى: 27) وقال عند ذكر من اختار الدنيا ومال إليها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (الشورى: 20) فقال: {منها} بأداة التبعيض، فلم يقع في هذه السورة ما يستدعي ذكر الزينة المالية، فلذلك لم تذكر. والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني أن قوله تعالى في آية القصص {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ملتحم أوضح التحام بما اتصل به من قوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (القصص: 61) فكأن قد قيل بعد قوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فكأن قد قيل: أفلا تعقلون ما بين الأمرين، ثم أخبر بقوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في العذاب الذي لا أخر له، فقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} من تمام ما قبله وذلك بين التناسب.
ولما ورد قبل آية الشورى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} (الشورى: 13) إلى قوله: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (الشورى: 15). وقوله: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (الشورى: 18) قوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} (الشورى: 22) وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (الشورى: 31) ناسب هذا المتقدم من التخويف ما ينبئ المؤمنين المستجيبين بأصناف قوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا بكل هذا وعلى انفراده سبحانه بالخلق والأمر فتوكلوا عليه، فأعقبت كل آية منها بما يناسبها ووردت على ما يجب، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا}.
الدنيا حلوة خَضِرَة، ولكنها في التحقيق مُرَّةٌ مَذِرَة، فَبِشْرُها يُوهِمُ أنها صَفْوٌ ولكن مِن وراءِ صَفْوِها حَسُوٌ {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}.
الدنيا سمومُ حَنْظَلِها تتلو طمومَ عَسَلِها، وتَلَفُ ما يحصل من شربها يغلب لُطْفَ ما يظهر من أربها، وليس من أُكْرِمَ بوجدان نعيم عقباه كَمَنْ مُنِيَ بالوقوع في جحيم دنياه.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)}.
إنما يكون ذلك على جهة التهويل وإبطال كيد أهل التضليل، وإلاَّ فَمِنْ أين لهم الجواب فضلًا عن الصواب! والذي يسألهُم هو الذي على ما شاء جَعَلَهم؛ فما وَرَدَ فِعْلٌ إلا على فِعْلِهِ، وما صَدَرَ ما صَدَرَ إلا من أصْلِه. وإذْ تَبَرَّأَ بعضُهم من بعض بَيَّنَ أنه لم يكن للأصنام استحقاقُ العبودية ولا لأحدٍ من النفي والإثبات بالإيجاد والإحداثِ ذَرَّةَ أو منه شظيَّة، كلاّ بل هو الواحد القهار.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)}.
يسألهم سؤالَ هيبةٍ؛ فلا يَبْقَى لهم تمييزٌ، ولا قوةُ عقلٍ، ولا مُكْنَةُ جوابٍ، قال جلّ ذكره: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ}.
إذ استولت عليهم الحَيْرَةُ، واستمكن منهم الدهشُ؛ فلا نُطْقَ ولا عقلَ ولا تمييز ولا فهم. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا} (60) قال: من أخذ من الدنيا بشهوة منه حرمه الله في الدنيا والآخرة ما هو خير منها، ومن أخذ منها لضرورة دخلت بنفسه أو لحق لزمه لم يحرم ما هو خير في الدنيا، لذة العبادة ومحبة الحق عز وجل، وفي الآخرة الدرجات العلى.
وقيل لعامر بن عبد قيس: لقد رضيت من الدنيا باليسير.
قال: أفلا أخبركم بمن رضي بدون ما رضيت؟ قالوا: بلى.
قال: من رضي الدنيا حظًا من الآخرة. اهـ.

.تفسير الآيات (68- 70):

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان كأنه قيل: ما لأهل القسم الأول لا يتوخون النجا من ضيق ذلك البلا، إلى رحب هذا الرجا، وكان الجواب: ربك منعهم من ذلك، أو ما لم يقطع لأهل هذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأول بالشقاء؟ وكان الجواب: إن ربك لا يجب عليه شيء عطف عليه- إشارة إليه قوله: {وربك} أي المحسن إليك، بموافقة من وافقك ومخالفة منخالفك لحكم كبار، دقت عن فهم أكثر الأفكار {يخلق ما يشاء} من الهدى الضلال وغيرهما، لأنه المالك المطلق لا مانع له من شيء من ذلك {ويختار} أي يوقع الاختيار، لما يشاء فيريد الكفر للأشرار، والإيمان للأبرار، لا اعتراض عليه، فربما ارتد أحد ممن أظهر المتاب، لما سبق عليه من الكتاب، فكان من أهل التباب فلا تأس على من فاتك كائنًا من كان، واعلم أنه ما ضر إلا نفسه، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.
ولما أفهم هذا أن غيره سبحانه إذا أراد شيئًا لم يكن إلا أن يوافق مراده تعالى، صرح به بقوله: {ما كان لهم الخيرة} أي أن يفعلوا أو يفعل لهم كل ما يختارونه من إتيان الرسول بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام أو غيره، اسم من الاختيار، يقام مقام المصدر، وهو أيضًا اسم المختار، فهو تعبير بالمسبب عن السبب لأنه إذا خلى عنه كان عقيمًا فكان عدمًا، قال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أن العبد في اختياره غير مختار، فلهذا أهل الرضى حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا، وإن أصابهم بسهام المصائب العظام صابروا، وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا، وإن أذلهم رضوا وسلموا، فلا يرضيهم إلا ما يرضيه، ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة ** حبًا لذكرك فليلمني اللوم

وأهنتني فأهنت نفسي صاغرًا ** ما من يهون عليك ممن أكرم

ولما كان إيقاع شيء على غير مراده نقصًا، وكان وقوع الشرك سفولًا وعجزًا، قال تعالى مشيرًا إلى نتيجة هذه الآيات في نفي ذلك عنه: {سبحان الله} أي تنزه الجامع لصفات الكمال عن أن يختار أحد شيئًا لا يريده فيص إليه أو يقع بوجه عليه {وتعالى} أي علا علو المجتهد في ذلك، فعلوُّه لا تبلغ العقول بوجه كنه هداه {عما يشركون} لأنه لا إرادة لما ادعوهم شركاء، ولو كانت لهم إرادة لتوقف إنفادها لعجزهم على إيجاد الخالق.
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، قال: {وربك} أي المحسن إليك المتولي لتربيتك، كما هو بالغ القدرة، فهو شامل العلم {يعلم ما تكن} أي تخفي وتستر {صدورهم} من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى أو لا يؤمنون، ومن كون ما أظهر من أظهر منهم الإيمان بلسانه خالصًا أو مشوبًا.
ولما كان علم الخفي لا يستلزم علم الجلي إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك قال: {وما يعلنون} أي يظهرون، كل ذلك لديه سواء، فلا يكون لهم مراد إلا بخلقه.
ولما كان علمه بذلك إنما هو لكونه إلهًا، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، عبر عن ذلك بقوله: {وهو الله} أي المستأثر بالإلهية الذي لا سمي له، الذي لا يحيط الوصف من عظمته بأكثر من أنه عظيم على الإجمال، وأما التفاصيل كلها أو أقلها فهيهات هيهات؛ ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله: {لا إله إلا هو} ثم علل ذلك بقوله: {له} أي وحده {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {في الأولى والآخرة} وليس ذلك لشيء سواه إن آمنوا أو كفروا {وله} أي وحده {الحكم} أي إمضاء القضاء على الإطلاق، فلو أراد لقسرهم على الإيمان {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون} أي بأيسر أمر يوم النفخ في الصور، لبعثرة القبور، بالبعث والنشور، ومع أنكم الآن أيضًا راجعون في جميع أحكامكم إليه ومقصورون عليه، إن شاء أمضاها، وإن أراد ردها ولواها، ففي الايات غاية التقوية لقلوب المطيعين، ونهاية الزجر والردع للمتمردين، بالتنبيه على كونه قادرًا على جميع الممكنات، علمًا بكل المعلومات، منزهًا عن النقائص والآفات يجزي الطائعين والعاصين بالقسط. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه ألبتة، وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصوابًا فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر والخيرة أيضًا اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان: الأول: وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله: {وَيَخْتَارُ} ويكون ما نفيًا، والمعنى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني: أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} ثم يقول: {ويختَار ما كان لهم الخيرة} قال أبو القاسم الأنصاري وهذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله، فإن قيل لما كلفه استوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا إذا علم قطعًا إنه لا يحصل ذلك الأفضل فتوريطه في العقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة، ثم قولهم المستحق خير من المتفضل به جهل لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله، أما الذي ما حصل الذات والصفات إلا بخلقه وبفضله وإحسانه فكيف يستنكف من تفضله، ثم قال: {سبحان الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه يعلم ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعلنون من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير غيره في النبوة، ولما بين علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال: {وَهُوَ الله لا إله إلاّ هُوَ} وفيه تنبيه على كونه قادرًا على كل الممكنات، وعالمًا بكل المعلومات، منزهًا عن النقائص والآفات يجازي المحسنين على طاعتهم ويعاقب العصاة على عصيانهم وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ونهاية تقوية القلب للمطيعين، ويحتمل أيضًا أن لما بين فساد طريق المشركين من قوله: {ويَوْم يُنَادِيهِمْ فيقول أَيْنَ شُرَكَائِىَ} [القصص: 62] ختم الكلام في ذلك بإظهار هذا التوحيد وبيان أن الحمد والثناء لا يليق إلا به.
أما قوله: {لَهُ الحمد في الأولى والأخرة} فهو ظاهر على قولنا لأن الثواب غير واجب عليه بل هو سبحانه يعطيه فضلًا وإحسانًا فله الحمد في الأولى والآخرة، ويؤكد ذلك قول أهل الجنة {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] {وآخر دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [يونس: 10] أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم، قال القاضي إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار أيضًا بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والإلطاف وسائر النعم، لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر، وهذا فيه نظر، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن بذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة؟ كلا، بل لابد أن يتوبوا وأن يشتغلوا بالشكر، ومتى فعلوا ذلك فقد بطل العقاب.
أما قوله: {وَلَهُ الحكم} فهو إما في الدنيا أو في الآخرة فأما في الدنيا فحكم كل أحد سواه إنما نفذ بحكمه، فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ولا على الزوجة حكم زوجها ولا على الابن حكم أبيه ولا على الرعية حكم سلطانهم ولا على الأمة حكم الرسول، فهو الحاكم في الحقيقة، وأما في الآخرة فلا شك أنه هو الحاكم، لأنه الذي يتولى الحكم بين العباد في الآخرة، فينتصف للمظلومين من الظالمين.
أما قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالمعنى وإلى محل حكمه وقضائه ترجعون، فإن كلمة إلى لانتهاء الغاية وهو تعالى منزه عن المكان والجهة. اهـ.