فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ووجه تقييد التنزيه والترفيع بما يشركون أنه لم يجترىء أحد أن يصف الله تعالى بما لا يليق به ويستحيل عليه إلا أهل الشرك بزعمهم أن ما نسبوه إلى الله إنما هو كمال مثل اتخاذ الولد أو هو مما أنبأهم الله به، و{إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28].
وزعموا أن الآلهة شفعاؤهم عند الله.
وقالوا في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك.
وأما ما عدا ذلك فهم معترفون بالكمال لله، قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25].
و{ما} مصدرية أي سبحانه وتعالى عن إشراكهم.
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}.
عطف على {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 68] أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقادًا وعملًا، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم، أي نفوسهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم.
فضمير {صدورهم} عائد إلى {ما} من قوله: {يخلق ما يشاء} [القصص: 68] باعتبار معناها، أي ما تكنّ صدور المخلوقات وما يعلنون.
وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم في {ما يشاء} [القصص: 68] فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد.
وهذا منتهى الإيجاز.
وفي إحضار الجلالة بعنوان {وربك} إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم وتقدم {ما تُكِنُّ صدورهم وما يعلنون} آخر [النمل: 74].
{وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ}.
عطف على جملة {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 68] الآية.
والمقصود هو قوله: {وله الحكم} وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه.
ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قوله: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} [القصص: 58] إلى هنا، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة.
والمذكور بعنوان {ربك} [القصص: 69] هو المسمى الله اسمًا جامعًا لجميع معاني الكمال.
فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه.
وقريب منه قوله: {فذلكم الله ربكم الحق} [يونس: 32].
وقوله: {لا إله إلا هو} خبر ثان عن ضمير الجلالة، وفي هذا الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو، فكان هذا إبطالًا للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقوله: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} [القصص: 64].
وأخبر عن اسم الجلالة خبرًا ثانيًا بقوله: {له الحمد في الأولى والآخرة} وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا الله فلا تسمع أحدًا من المشركين يقول: الحمد للعزى، مثلًا.
فاللام في {له} للملك، أي لا يملك الحمد غيره، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي.
وتعريف {الحمد} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي له كل حمد.
و{الأولى} هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة.
وأما الحمد في الآخرة فهو ما في قوله: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} [الإسراء: 52].
واختصاص الجنس به في الآخرة حقيقة.
وقوله: {وله الحكم} اللام فيه أيضًا للملك.
والتقديم للاختصاص أيضًا.
و{الحكم} القضاء وهو تعيين نفع أو ضر للغير.
وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله: {في الأولى والآخرة} عليه، أي له الحكم في الدارين.
والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله.
وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها في قولهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] أي في الآخرة إن كان ما زعمتم من البعث.
وأما جملة {وإليه ترجعون} فمسوقة مساق التخصيص بعد التعميم، فبعد أن أثبت لله كل حمد وكل حكم، أي أنكم ترجعون إليه في الآخرة فتمجدونه ويُجري عليكم حكمه.
والمقصود بهذا إلزامهم بإثبات البعث.
وتقديم المجرور في {وإليه ترجعون} للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بالانتهاء إليه أي إلى حكمه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.
كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب، لكن تأتي الآية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وكأن الحق سبحانه يقول: أنا الذي أعرف أين المصلحة، وأعرف كيف أُريحكم من شرِّهم، فدعوني أخلق ما أشاء، وأختار ما أشاء، فأنا الرب المتعهد للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه.
والمربِّي قسمان: إما مؤمن وإما كافر، ولابد أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر، وأنْ يمتد هذا الشقاء إنْ بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة، وقَبِلْتُ منه الرجوع، وهذا أول ما يريح المؤمنين.
ومعنى: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} [القصص: 68] يعني: لا خيارَ لكم، فدعوني لأختار لكم، ثم نفِّذوا ما أختاره أنا.
أو: أن هذه الآية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] قيلت للردِّ على قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. يقصدون الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي، فردَّ الله عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32].
فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، فجعلنا هذا غنيًا، وهذا فقيرًا، وهذا قويًا، وهذا ضعيفًا، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها، فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجِّهونها حسب اختيارهم؟!!.
{مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} [القصص: 68] أي: الاختيار في مثل هذه المسائل.
ويجوز {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} [القصص: 68] أي: المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم، يقولون: لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟
والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء، ويفعل ما يريد، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده، ولكن يرحمكم أنتم أيضًا حين يُريحكم من شرِّه.
وقوله: {سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] أي: تعالى الله وتنزَّه عما يريدون من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر- وأهواؤهم مختلفة- لفسدتْ حياتهم جميعًا.
ألا ترى أن البشر مختلفون جميعًا في الرغبات والأهواء، بل وفي مسائل الحياة كلها، فترى الجماعة منهم في سنٍّ واحدة، وفي مركز اجتماعي واحد، فإذا توجَّهوا لشراء سلعة مثلًا اختار كل منهم نوعًا ولونًا مختلفًا عن الآخر.
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}.
ما تُكنُّ صدورهم أي: السر {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] والسر: ما تركته في نفسك محبوسًا، وأسررْتَه عن الخَلْق لا يعرفه إلا أنت، أو السر: ما أسررت به إلى الغير، وساعتها لن يبقى سِرًا، وإذا ضاق صدرك بأمرك، فصدر غيرك أضيق.
وإذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر، فهو يعلم الجهر من باب أَوْلَى؛ لأن الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه. أما الأخفى من السر، فلأنه سبحانه يعلم ما تُسِره في نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد.
ولك أن تسأل: إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين المنحلين الذين يجارونهم.
وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوَّى في علمه تعالى بين السر والجهر، فقال سبحانه: {سَوَاءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10].
وقال سبحانه: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} [الملك: 13].
والآية التي معنا: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] وفي هذه الآيات قدّم السر على الجهر، أما في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَاءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} [الأعلى: 6- 7].
وقال سبحانه: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] فقدَّم العلم بالجهر على العلم بالسرِّ، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر، وهذه الملحظية غفل عنها السطحيون، فأخطأوا في فهم الآية.
فأنت مثلًا لو أسررتَ في نفسك شيئًا، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك، وربما خانك التعبير فدلَّ على ما أسررتْه، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30].
إذن: هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهرًا واحدًا؛ لأنه مقابل بالجمع: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] فالمعنى: ويعلم ما تجهرون وما تكتمون.
ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس، يهتف كل منهم هتافًا، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات، وأنْ تُرجع كلًا منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبُّره، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فَرْز الأصوات وتمييزها.
لذلك يقولون: لا تستطيع أنْ تُحدِّد جريمة في جمهور من الناس؛ لأن الأصوات والأفعال مختلطة، يستتر كلٌّ منها في الآخر كما يقولون: الفرد بالجمع يُعْصَم.
ويقولون: الجماهير ببغائية، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا، لما انهزموا في يوم أكتيوما وأشاعوا أنهم انتصروا، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير:
اسْمع الشَّعْبَ دُيُونُ ** كَيْفَ يُوحُون إليْهِ

مَلأ الجوَّ هتافًا ** بِحيَاتيْ قَاتليْهِ

أثَّر البهتانُ فيه ** وَانْطلى الزُّور عليْه

يَا لَهُ مِنْ ببغاء ** عقلُه في أُذُنَيْه

إذن: فَعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنَّ الله بها، كما يمتنُّ سبحانه بعلم السر.
وقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ} [القصص: 69] ليُطمئن رسول الله؛ لأنه سبحانه ربه، والمتولي لتربيته والعناية به، يقول له: لا تحزن مما يقولون، فأنا أعلم سِرَّهم وجهرهم، فإنْ كنتَ لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه، وسوف أخبرك به، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].