فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أفلا تَسْمَعون} أي: سماع فَهْم وقَبول، فتستدلُّوا بذلك على وحدانية الله تعالى؟! ومعنى {تَسْكُنون فيه} تستريحون من الحركة والنَّصَب {أفلا تُبْصِرون} ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة؟! ثم أخبر أن اللَّيل والنهار رحمة منه.
وقوله: {لتَسْكُنوا فيه} يعني في الليل {ولِتَبْتَغوا مِنْ فَضْله} أي: لتلتمسوا من رزقه بالمعاش في النهار {ولعلَّكم تَشْكُرون} الذي أنْعَم عليكم بهما.
قوله تعالى: {ونَزَعْنا مِنْ كلِّ أُمَّة شهيدًا} أي: أخرْجنا من كل أُمَّة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ {فقُلنا هاتوا بُرهانكم} أي: حُجَّتكم على ما كنتم تعبُدون من دوني {فعَلِموا أنَّ الحق لله} أي: عَلِموا أنَّه لا إِله إِلا هو {وضَلَّ عنهم} أي: بَطَل في الآخرة {ما كانوا يَفْتَرون} في الدنيا من الشركاء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا}.
أي دائمًا؛ ومنه قول طرفة:
لعمرُك ما أمري عليّ بغُمَّةٍ ** نهاري ولا ليلي عليّ بسَرْمدِ

بيّن سبحانه أنه مهد أسباب المعيشة ليقوموا بشكر نعمه.
{مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} أي بنور تطلبون فيه المعيشة.
وقيل: بنهار تبصرون فيه معايشكم وتصلح فيه الثمار والنبات.
{أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} سماع فهم وقبول.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستقرّون فيه من النصب.
{أَفلاَ تُبْصِرُونَ} ما أنتم فيه من الخطأ في عبادة غيره؛ فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على إيتاء الليل والنهار غيره فلمَ تشركون به.
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي فيهما.
وقيل: الضمير للزمان وهو الليل والنهار.
{وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي لتطلبوا من رزقه فيه أي في النهار فحذف.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ذلك.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.
أعاد هذا الضمير لاختلاف الحالين، ينادون مرة فيقال لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} فيدعون الأصنام فلا يستجيبون، فتظهر حيرتهم، ثم ينادون مرة أخرى فيسكتون.
وهو توبيخ وزيادة خزي.
والمناداة هنا ليست من الله؟ لأن الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} [البقرة: 174] لكنه تعالى يأمر مَن يوبخهم ويبكتهم، ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب.
وقيل: يحتمل أن يكون من الله وقوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} حين يقال لهم {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وقال: {شُرَكَائِيَ} لأنهم جعلوا لهم نصيبًا من أموالهم.
قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي نبيًا؛ عن مجاهد.
وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا.
والأوّل أظهر؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيدًا} [النساء: 41] وشهيد كل أمة رسولها الذي يشهد عليها.
والشهيد الحاضر.
أي أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم.
{فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أي حجتكم.
{فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ} أي علموا صدق ما جاءت به الأنبياء.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي ذهب عنهم وبطل.
{مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة تعبد. اهـ.

.قال أبو حيان:

و{أرأيتم} بمعنى أخبروني، وقد يسلط على الليل {أرأيتم} و{جعل} إذ كل منهما يقتضيه، فأعمل الثاني.
وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام، والعائد على الليل محذوف تقديره: من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقًا، بل قد يختلف الطلب، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية، وهذا على جهة المفعولية، وهذا على جهة المفعول، وهذا على جهة الظرف.
وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالبًا، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهامًا، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها، كان ذلك المنتصب حالًا.
و{سرمدًا} قيل: من السرمد، فميمه زائدة، ووزنه فعمل، ولا يزاد وسطًا ولا آخرًا بقياس، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف.
وأتى {بضياء} وهو نور الشمس، ولم يجىء التركيب بنهار يتصرفون فيه، كما جاء {بليل تسكنون فيه} لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء.
{أفلا تسمعون}؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل.
{أفلا تبصرون}؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه، قال الزمخشري.
و{من رحمته} من هنا للسبب، أي وبسبب رحمته إياكم، {جعل لكم الليل والنهار} ثم علل جعل كل واحد منهما، فبدأ بعلة الأول، وهو الليل، وهو: {لتسكنوا فيه} ثم بعلة الثاني وهو: {ولتبتغوا من فضله} ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو: {لعلكم تشكرون} أي هذه الرحمة والنعمة.
وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، ومنه قول ابن جيوش:
ومقرطق يغني النديم بوجهه ** عن كأسه الملأى وعن إبريقه

فعل المدام ولونها ومذاقها ** في مقلتيه ووجنتيه وريقه

والضمير في {فيه} عائد على الليل، وفي {فضله} يجوز أن يكون عائدًا على الله، والتقدير: من فضله، أي من فضل الله فيه، أي في النهار؛ وحذف لدلالة المعنى، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه.
ويحتمل أن يعود على النهار، أي من فضل النهار، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز.
لما كان الفضل حاصلًا فيه، أضيف إليه، كقوله: {بل مكر الليل والنهار}.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)}.
تقدم الكلام على قوله: {ويوم يناديهم} وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد.
{ونزعنا} أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم.
{شهيدًا} وهو نبي تلك الأمة، لأنه هو الشهيد عليها، كما قال: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا؟ وقيل: عدولًا وخيارًا.
والشهيد على هذا اسم الجنس، والشهيد يشهد على تلك الأمّة بما صدر منها، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم.
{فقلنا} أي للملأ، {هاتوا برهانكم} أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد، {فعلموا أن الحق لله} لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله.
{وضل عنهم} أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع، {ما كانوا يفترون} من الكذب والباطل. اهـ.

.قال الثعالبي:

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} الآيةُ معناها بيِّنٌ، وينبغي للعَاقِل أَلاَّ يجعلَ ليلَهُ كُلَّهُ نَوْمًا؛ فَيَكونَ ضَائِعَ العُمْرِ جِيفَةً بالليلِ بطَّالًا بالنَّهَارِ، كما قيل: الطويل:
نَهَارُكَ بَطَّالٌ وَلَيْلُكَ نَائِم ** كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ

فإنْ أرَدْتَ أَيُّهَا الأخ؛ أن تكونَ من الأَبرَارِ فعليكَ بالقيامِ في الأَسْحَارِ، وقد نقل صاحبُ الكوكب الدري عن البزار؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَتَدْرُونَ مَا قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَا بُنَيَّ، لاَ تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَإنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ، يَدَعُ الرَّجُلُ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انتهى. وابتغاء الفضل: هو بالمَشي والتصرُّفِ.
وقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: عُدُوْلَ الأممِ وأخيارَهَا، فيشهدوْنَ على الأمم بخيرِها وشرِّها، فيحقُّ العذابُ عَلى مَنْ شُهِدَ عليه بالكُفْرِ، وقيل له: على جهة الإعذار في المحاورة: {هَاتُواْ برهانكم} ومن هذه الآيةِ، انْتُزِعَ قولُ القاضِي عند إرادة الحكم: أَبَقِيَتْ لك حجة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ} تقريرًا لما ذُكر {أَرَءيْتُمْ} أي أخبرونِي {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} دائمًا من السَّرد وهو المتابعةُ والاطِّرادِ والميمُ مزيدةٌ كما في دلامص من الدِّلاص يقال: درع دلاصٌ أي ملساءُ لينةٌ {إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِ الشَّمس تحت الأرضِ أو تحريكها حول الأُفقِ الغائر {مَّنْ إله غَيْرُ الله} صفةٌ لإله {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} صفةٌ أخرى لها عليها يدورُ أمرُ التبكيتِ والإلزامِ كما في قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} وقوله تعالى: {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} ونظائرِهما خلا أنَّه قُصدَ بيانُ انتفاءِ الموصوفِ بانتفاءِ الصِّفة ولم يُقَل: هل إله الخ لإيرادِ التَّبكيت والإلزامِ على زعمِهم. وقُرىء بضئاءٍ بهمزتينِ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} هذا الكلامَ الحقَّ سماعَ تدبُّرٍ واستبصارٍ حتَّى تُذعنوا له وتعملوا بموجبِه. {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِها في وسطِ السَّماء أو بتحريكِها على مدارٍ فوقَ الأُفق {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحةً من متاعبِ الأشغالِ، ولعلَّ تجريدَ الضَّياءِ عن ذكرِ منافعِه لكونِه مقصودًا بذاتِه ظاهرَ الاستتباعِ لِما نيطَ به من المنافعِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} هذه المنفعةَ الظَّاهرةَ التي لا تَخْفى على مَن له بصرٌ.
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليلِ {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في النَّهارِ بأنواعِ المكاسبِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكي تشكرُوا نعمتَه تعالى فعلَ ما فعلَ أو لكي تعرفُوا نعمتَه تعالى وتشكروه عليها.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ باذكُر {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تقريعٌ إثرَ تقريعٍ للإشعارِ بأنَّه لا شيء أجلبُ لغضبِ الله عزَّ وجلَّ من الإشراكِ كما لا شيءَ أدخلُ في مرضاتِه من توحيدِه سبحانَه. وقولُه تعالى: {وَنَزَعْنَا} عطفٌ على يُناديهم. وصيغةُ الماضي للدِّلالةِ على التَّحققِ أو حالٌ من فاعله بإضمارِ قد. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِ النَّزعِ وتهويلِه أي أخرجنَا {مِن كُلّ أمَّةٍ} من الأممِ {شَهِيدًا} نبيًا يشهدُ عليهم بما كانُوا عليه كقولِه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} {فَقُلْنَا} لكلِّ أمَّةٍ من تلك الأُمم {هَاتُواْ برهانكم} على صحَّة ما كنتُم تدينون به {فَعَلِمُواْ} يومئذٍ {أَنَّ الحق لِلَّهِ} في الإلهية لا يشاركه فيها أحدٌ {وَضَلَّ عَنْهُم} أي غابَ عنهم غيبةَ الضَّائعِ {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} في الدُّنيا من الباطلِ. اهـ.