فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ} تقريرًا لما ذكر {أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني، وقرأ الكسائي {أريتم} بحذف الهمزة {تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ} أي دائمًا وهو عند البعض من السرد وهو المتابعة والاطراد والميم مزيدة لدلالة الاشتقاق عليه فوزنه فعمل ونظيره دلامص من الدلاص، يقال: درع دلاص أي ملساء لينة.
واختار بعض النحاة أن الميم أصلية فوزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط، ونصبه إما على أنه مفعول ثان لجعل أو على أنه حال من الليل، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما متعلق بسرمدًا أو بجعل؛ وجوز أبو البقاء أيضًا تعلقه بمحذوف وقع صفة لسرمدًا وجعله تعالى كذلك بإسكان الشمس تحت الأرض مثلًا وقوله تعالى: {مِنْ إِلَهٍ} مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: {غَيْرُ الله} صفة لإله، وقوله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والإلزام كما في قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} [يونس: 31] وقوله سبحانه: {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} [الملك: 30] ونظائرهما خلا إنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة، ولم يؤت بهل التي هي لطلب التصديق المناسب بحسب الظاهر للمقام، وأتى بمن التي هي لطلب التعيين المقتضى لأصل الوجود لإيراد التبكيت والإلزام على زعمهم فإنه أبلغ كما لا يخفى، وجملة {مِنْ إِلَهٍ} الخ قال أبو حيان: في موضع المفعول الثاني لأرأيتم وجعل الليل مما تنازع فيه أرأيتم وجعل وقال: إنه أعمل فيه الثاني فيكون المفعول الأول للأول محذوفًا، وحيث جعلت تلك الجملة في موضع مفعوله الثاني لابد من تقدير العائد فيها أي من إله غيره يأتيكم بضياء بدله مثلًا، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، وكذا يقال في الآية بعد، وعن ابن كثير أنه قرأ: {بضاء} بهمزتين {بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} سماع فهم وقبول الدلائل الباهرة والنصوص المتظاهر لتعرفوا أن غير الله تعالى لا يقدر على ذلك.
{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} بإسكان الشمس في وسط السماء مثلًا {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحة من متاعب الأشغال {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة لتقفوا على أن غير الله تعالى لا قدرة له على ذلك، ويعلم مما ذكرنا أن كلًا من جملتي {أفلا تسمعون} [القصص: 71] وأفلا تبصرون تذييل للتوبيخ الذي يعطيه قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ} [القصص: 71] الخ قبله، وأفاد الزمخشري أن ظاهر التقابل يقتضي ذكر النهار والتصرف فيه إلا أن العدول عن ذلك إلى الضياء وهو ضوء الشمس للدلالة على أنه يتضمن منافع كثيرة منها التصرف فلو أتى بالنهار لاستدعى القصر على تلك المنفعة من ضرورة التقابل ولأن المنافع للضياء لا للنهار على أن النهار أيضًا من منافعه، ثم استشعر أن يقال: فلم لم يؤت بالظلام بدل الليل في الآية الثانية لتتم المقابلة من هذا الوجه؟ وأجاب بأنه ليس بتلك المنزلة فلا هو مقصود في ذاته كالضياء ولا أن المنافع من روادفه مع ما فيهما من الاستئناس والاشمئزاز، بل لو تأمل حق التأمل وجد حكم بأن الليل من منافع الضياء أيضًا والظلام من ضرورات كون الشمس المضيئة تحت الأرض وإلقاء ظل الليل، ثم أفاد أن التفصلة وهو التذييل المذكور فيها إرشاد إلى هذه النكتة فءن قوله تعالى: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] يدل على أن التوبيخ بعدم التأمل في الضياء أكثر من حيث إن مدرك السمع أكثر.
والمراد ما يدركه العقل بواسطة السمع فلا يرد أن مدركه الأصوات وحدها ومدرك البصر أكثر من ذلك، وذلك أن ما لا يدرك بحس أصلًا يدرك بواسطة السمع إذا عبر عنه المعبر بعبارة مفهمة، وأما ما يدرك بالبصر فمن مشاهدة المبصرات وهي قليلة، وأما المطالعة من الكتب فإنها أضيق مجالًا من السمع وقرعه كذا في الكشف، والعلامة الطيبي قرر عبارة الكشاف بما قرر ثم قال: الأبعد من التكلف أن يجعل أفلا تسمعون تذييلًا للتوبيخ المستفاد من أرأيتم الخ قبله وكذا {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} على ما في المعالم أفلا تسمعون سماع فهم وقبول أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ ليجتمع لهم الصمم والعمى من الإعراض عن سماع البراهين والإغماض عن رؤية الشواهد.
ولما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل الله تعالى الذي هو بعض فوائد النهار شبيه بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ، وذكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولًا ثم قال: وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل، وصاحب الكشف قرر العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين، ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال: إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء شمسه أكثر من أن تحصى أحق وأولى، ومعنى قوله تعالى: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموه ليستدرك منه قصد القائل ويحيط بأكثر ما جعل الله تعالى في النهار من المنافع فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر وتفكر فيه ومعنى {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أتستدركون من ذلك ما يجب استدراكه. انتهى.
وفي الكشف أنه مؤيد لما ذكره صاحب الكشاف، وربما يقال ذكر سبحانه أولًا: فرضية جعل الليل سرمدًا وثانيًا: فرضية جعل النهار كذلك لأن الليل كما قالوا مقدم على النهار شرعًا وعرفًا وأيضًا ذلك أوفق بقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] ففي المثل الليل أخفى للويل وكذا بقوله تعالى سبحانه: {لَهُ الحمد في الاولى والاخرة} [القصص: 70] ففي الأثر كان الخلق في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، ولعله لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} بناءً على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} بناءً على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك وجىء بالضياء غير موصوف في الآية الأولى وبالليل موصوفًا في الثانية لما أفاده الزمخشري وقيل في وجه تذييل الآية الأولى بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} دون قوله سبحانه: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أن المفروض لو تحقق بقي معه السمع دون الإبصار إذ ظلمة الليل لا تحجب السمع وتحجب البصر، وفي وجه تذييل الثانية بقوله تعالى: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} دون {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} أن تحقق المفروض وعدمه سيان في أمر السمع دون الإبصار إذ لضياء النهار مدخل في الإبصار وليس له مدخل في السمع أصلًا وهو كما ترى {واعلم} أن هاهنا إشكالًا وهو أن جعل الليل سرمدًا إلى يوم القيامة أن تحقق لم يتصور الإتيان بضياء أصلًا وكذا جعل النهار سرمدًا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بليل كذلك، أما من غيره تعالى فظاهر لأنه معدن العجز عن كل شيء، وأما منه عز وجل فلاستلزامه اجتماع الليل والنهار إذا لو لم يجتمعا لم يتحقق الليل مستمرًا إلى يوم القيامة وكذا جعل النهار كذلكوهو خلاف المفروض واجتماعهما محال والمحال لا صلاحية له لتعلق القدرة فلا يراد.
وأجيب بأن المراد إن أراد سبحانه ذلك فمن إله غيره تعالى يأتيكم بخلاف مراده سبحانه بأن يقطع الاستمرار فيأتي بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، واعترض بأنه يفهم من الآية حينئذٍ أنه جل وعلا هو الذي إن أراد ذلك يأتيهم بخلاف مراده تعالى فيقطع الاستمرار وهو مشكل أيضًا لأن إتيانه تعالى بخلاف مراده جل وعلا مستلزم لتخلف المراد عن الإرادة هو محال فإذا أراد الله تبارك وتعالى شيئًا على وجه إرادة لا تعليق فيها لا يمكن أن يريده على خلاف ذلك الوجه، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المراد إن أراد الله تعالى ذلك غير معلق له على إرادته عز شأنه خلافه لا يأتيكم بخلافه غيره عز وجل ولم يصرح بالقيد لدلالة العقل الصريح على أن الإرادة غير المعلقة لا يمكن الإتيان بخلاف موجبها أصلًا، ومن الناس من ذهب إلى أنه سبحانه لا يبت إرادته فجميع ما يريده جل شأنه معلق، وقيل: الأولى أن يقال: ليس المراد سوى أن آلهتهم لا يقدرون على الإتيان بنهار بعد ليل وليل بعد نهار إذا أراد الله تعالى شأنه استمرار أحدهما، وإنما القادر على الإتيان بذلك هو الله سبحانه وحده من غير نظر إلى كون ذلك الإتيان مقيدًا بتلك الإرادة فتدبر.
{وَمِن رَّحْمَتِهِ} أي بسبب رحمته جل شأنه {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي في النهار بالسعي بأنواع المكاسب ففي الآية ما يقال له اللف والنشر ويسمى أيضًا التفسير كقول ابن حيوش:
ومقرطق يغني النديم بوجهه ** عن كأسه الملأى وعن إبريقه

فعل المدام ولونها ومذاقها ** في مقلتيه ووجنتيه وريقه

وضمير فضله لله تعالى؛ وجوز أبو حيان كونه للنهار على الإسناد المجازي وهو خلاف الظاهر، وفيها إشارة إلى مدح السعي في طلب الرزق وقد ورد {إِنّى عَبْدُ الله} وهو لا ينافي التوكل وأن ما يحصل للعبد بواسطته فضل من الله عز وجل وليس مما يجب عليه سبحانه {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لتعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوب باذكر، {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تقريع إثر تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز وجل، أو أن الأول لبيان فساد رأيهم كما يشير إليه قوله تعالى هناك: {حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} [القصص: 63]، وهذا لبيان أن إشراكهم لم يكن عن سند بل عن محض هوى كما يشير إليه قوله تعالى بعد: {هَاتُواْ برهانكم} [القصص: 75] أو الأول إحضار للشركاء بعدم الصلوح لقوله سبحانه بعده: {ادعوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ} [القصص: 64] وهذا تحسير بأنهم لم يكونوا في شيء من اتخاذهم ألا ترى قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [القصص: 75].
{وَنَزَعْنَا} عطف على {يناديهم} [القصص: 74] وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا بسرعة {مِن كُلّ أمَّةٍ} من الأمم {شَهِيدًا} شاهدًا يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبي تلك الأمة كما روي عن مجاهد، وقتادة، ويؤيده قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41] وهذا في موقف من مواقف يوم القيامة فلا يضر كون الشهيد في موقف آخر غير الأنبياء عليهم السلام وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى: {وَجِىء بالنبيين والشهداء} [الزمر: 69] فإنه دال في الظاهر على مغايرة الشهداء للأنبياء عليهم السلام.
وقيل: يجوز اتحاد الموقف والدلالة على المغايرة غير مسلمة ولو سلمت فشهادة الأنبياء عليهم السلام لا تنافي شهادة غيرهم معهم، وقوله تعالى: {مِن كُلّ أمَّةٍ} وإفراد شهيد ظاهر فيما تقدم، ومن هنا قال في البحر قيل: أي عدولًا وخيارًا، والشهيد عليه اسم جنس {فَقُلْنَا} لكل من تلك الأمم {هَاتُواْ برهانكم} على صحة ما كنتم تدينون به.
{فَعَلِمُواْ} يومئذٍ، {أَنَّ الحق لِلَّهِ} في الألوهية لا يشاركه سبحانه فيها أحد.
{وَضَلَّ عَنْهُم} أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع فضل مستعار لمعنى غاب استعارة تبعية.
{مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} في الدنيا من الباطل. اهـ.