فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفوجئوا كما قال تعالى عنهم: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39].
وقال: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [الكهف: 49].
فوجئوا بما لم يُصدِّقوا به ولم يؤمنوا به، لكن ما وجه هذه المفاجأة، وقد أخبرناهم بها في الدنيا وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أنْ يأخذوا بها، وأنْ يستعدوا لهذا الموقف، فالعاقل حين تُحذره من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال حين يحتاط لنفسه أنْ يكون ناصحه كاذبًا، على حَدِّ قول الشاعر:
زَعَم المنجِّمُ والطبيبُ كلاهٌما ** لا تُبعَثُ الأجسَادُ قُلْتُ إليكُما

إن صَحَّ قولكُمَا فلسْتُ بخاسِرِ ** أوْ صَحَّ قَوْلي فالخسَار عليكُما

وما عليك إنْ حملتَ بندقية في هذا الطريق المخوف، ثم لم تجد شيئًا يخيفك؟ إذن: أنتم إنْ لم تخسروا فلن تكسبوا شيئًا، ونحن إنْ لم نكسب لن نخسر.
وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} [القصص: 75] أي: غاب {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [القصص: 75] من ادّعاه الشركاء.
بعد أن أعطانا الحق- تبارك وتعالى- لقطة من لقطات يوم القيامة، والقيامة لا تخيف إلا مَنْ يؤمن بها، أما مَنْ لا يؤمن بالآخرة والقيامة فلابد له من رادع آخر؛ لأن الحق سبحانه يريد أنْ يحمي صلاح الكون وحركة الحياة.
ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم، ولَشقي الناس بهم، والله تعالى يريد أنْ يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالآخرة، فيجعل لهم عذابًا في الدنيا قبل عذاب الآخرة.
يقول تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] يعني: قبل عذاب الآخرة.
فالذي يقع للكفار في الدنيا رَدْع لكل ظالم يحاول أنْ يعتدي، وأنْ يقف في وجه الحق؛ لذلك يعطينا ربنا- عز وجل- صورة لهذا العذاب الدنيوي للمفسدين في الأرض، فيقول سبحانه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ}. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: ينالهم في القرآن خبر الأمم الماضية، كيف عذبوا لعلهم يتذكرون، أي لكي يخافوا فيؤمنوا بما في القرآن ويقال: ولقد وصلنا لهم القول، أي: وصلنا لهم الكتب بعضها ببعض، يعني بعضها على إثر بعض.
ويقال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا} أي: أوصلنا لهم القول.
يعني: أنزلنا لهم القرآن آية بعد آية أنه هداية، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يعني: لكي يتعظوا.
ثم وصف مؤمني أهل الكتاب فقال: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} يعني: من قبل القرآن {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} يعني: مؤمني أهل الكتاب، وهم أربعون رجلًا من أهل الإنجيل، كانوا مسلمين قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم اثنان وثلاثون من أهل أرض الحبشة، قدموا مع جعفر الطيار، وثمانية من أهل الشام.
ويقال: إنهم ثمانية عشر رجلًا {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني: القرآن {قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي صدقنا {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} يعني: القرآن، وذلك أنهم عرفوا بما ذكر في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وكتابه فقالوا: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} يعني: من قبل هذا القرآن، ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم كنا مخلصين {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} يعني: يعطون ثوابهم ضعفين مرة بكتابهم، ومرة بإيمانهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {بِمَا صَبَرُواْ} يعني: بصبرهم على ما أوتوا.
ويقال: بما صبروا، أي بصبرهم على دينهم الأول، وبما صبروا على أذى المشركين، فصدقوا وثبتوا على إيمانهم.
حيث قال لهم أبو جهل وأصحابه: ما رأينا أحدًا أجهل منكم، تركتم دينكم، وأخذتم دينه.
فقالوا: ما لنا لا نؤمن بالله، فذلك قوله عز وجل: {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} أي: يدفعون قول المشركين بالمعروف.
ويقال: يدفعون الشرك بالإيمان.
ويقال: يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح.
ويقال: يدفعون ما تقدم لهم من السيئات بما يعملون من الحسنات {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} يعني: يتصدقون.
قوله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} يعني: إذا سمعوا الشتم والأذى والكلام القبيح لم يردوا عليهم، ولم يكافئوهم به ولم يلتفتوا إليه، يعني: إذا شتمهم الكفار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشتم {وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا} يعني: ديننا {وَلَكُمْ أعمالكم} يعني: دينكم {سلام عَلَيْكُمُ} يعني: وردوا معروفًا عليهم ليس هذا تسليم التحية، وإنما هو تسليم المتاركة والمسالمة، أي: بيننا وبينكم المتاركة والمسالمة، وهذا إن يؤمر المسلمون بالقتال.
ويقال: السلام عليكم.
يعني: أكرمكم الله تعالى بالإسلام {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} أي: لا نطلب دين الخاسرين، ولا نصحبهم.
ويقال: هذه الآية مدنية نزلت في شأن عبد الله بن سلام.
وروى أسباط عن السدي قال: لما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال يا رسول الله: ابعث إلى قومي فاسألهم عني فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فستر بينهم وبينه سترًا.
وقال: «أَخْبِرُونِي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَلامِ كَيْفَ هُوَ فِيكُمْ؟» قالوا: ذاك سيدنا وأعلمنا.
قال: «أَرَأَيْتُمْ إنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي أَتُؤْمِنُونَ بِي وَتُصَدِّقُونِي؟» قالوا: هو أفقه من أن يدع دينه ويتبعك قال: «أَرَأَيْتُمْ إنْ فَعَلَ؟» قالوا: لا يفعل قال: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ فَعَلَ؟» قالوا: إنه لا يفعل، ولو فعل إذًا نفعل فقال عليه السلام: «اخْرُجْ يا عَبْدَ الله» فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فوقعوا فيه، وشتموه وقالوا: ما فينا أحد أقل علمًا، ولا أجهل منك قال: «أَلَمْ تُثْنُوا عَلَيْهِ آنِفًا؟» قالوا: إنا استحينا أن نقول اغتبتم صاحبكم، فجعلوا يشتمونه وهو يقول: {سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} فقال: ابن يامني، وكان من رؤساء بني إسرائيل أشهد أن عبد الله بن سلام صادق، فابسط يدك يا محمد، فبسط يده، فبايع ابن يامني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} إلى قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} وإلى قوله: {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين}.
قوله عز وجل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} يعني: لا ترشد من أحببته إلى الهدى.
ويقال: من أحببت هدايته إلى دينك، وذلك أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَمَّاهُ قُلْ لا إله إِلا الله كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه ويكلمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات على الكفر فنزل {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} بهدايته {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يعني: يرشد من يشاء إلى دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} يعني: بمن قدر له الهدى.
قوله عز وجل: {وَقَالُواْ} يعني: مشركي مكة {إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ} يعني: الإيمان بك {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} يعني: نسبى ونخرج من مكة لإجماع العرب على خلافنا، وهذا قول الحارث بن عامر النوفلي حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما كذبت كذبة قط، فنتهمك اليوم، ولكن متى ما نؤمن بك فتحسنا العرب من أرضنا يقول الله تعالى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ} يعني: أولم ننزلهم مكة حرمًا أمينًا يعني: كان الحرم أمنًا لهم في الجاهلية من القتل والسبي، وهم يعبدون غيري، فكيف يخافون إن أسلموا أن لا يكون الحرم أمنًا لهم؟ فذلك قوله: {أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ} يعني أولم ننزلهم مكة حرمًا آمنًا من الغارة والسبي {يجبى إِلَيْهِ} بالياء يعني: يحمل إليه {ثَمَرَاتُ كُلّ شيء} أي: من ألوان الثمرات قرأ نافع {تجبى} بالتاء لأن الثمرات مؤنثة.
وقرأ الباقون بالياء لتقديم الفعل ثم قال: {شيء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا} أي: من عندنا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يأكلون رزقي، ويعبدون غيري، وهم آمنون في الحرم ويقال لا يعلمون أن ذلك من فضل الله عليهم.
ثم خوفهم فقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} فيما مضى {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} كفرت برزق ربها ذكر القرية، وأراد به أهل القرية يعني: أنهم كانوا ينقلبون في رزق الله تعالى: فلم يشكروه في نعمته.
ويقال: بطرت معيشتها يعني: طغوا في نعمة الله، فأهلكهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا.
ويقال: عاشوا في البطر وكفران النعم {فَتِلْكَ مساكنهم} يعني: انظروا واعتبروا في بيوتهم وديارهم بقيت خالية {لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا} وهم المسافرون ينزلون بها يومًا أو ساعة {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} أي: نرث الأرض ومن عليها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} يعني: لم يعذب أهل القرى {حتى يَبْعَثَ في أُمّهَا رَسُولًا} يعني: معظمها ويقال: في أكبر قراها.
ويقال: أم القرى مكة.
قرأ حمزة والكسائي {فِى أُمّهَا} بكسر الألف.
والباقون بالضم، ومعناهما واحد يبعث في أمها رسولًا {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} يعني: القرآن {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} يعني: لم نهلكها إلا بظلم أهلها.
ثم قال عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مّن شيء} يعني ما أعطيتم من مال.
ويقال: ما أعطيتم من الدنيا، فهو {فمتاع الحياة الدنيا} يعني: فهو متاع الحياة الدنيا، ينتفعوا بها أيام حياتهم {وَزِينَتَهَا} يعني: وزهراتها ولا تبقى دائمًا {وَمَا عِندَ الله} من الثواب والجنة {خَيْرٌ وأبقى} يعني: أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني.
قرأ عمرو {يَعْقِلُونَ} بالياء على معنى الخبر عنهم.
وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
قوله عز وجل: {أَفَمَن وعدناه وَعْدًا حَسَنًا} يعني: الجنة {فَهُوَ لاَقِيهِ} يعني: مدركه ومصيبه {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا} بالمال {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} في النار هل يستوي حالهما؟ قال في رواية الكلبي: نزل في عمار بن ياسر، وأبي جهل بن هشام وقال غيره: هذا في جميع المؤمنين، وجميع الكافرين ويقال نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي جهل، يعني: من كان له في هذه الدنيا عدة مع دين الله، خير ممن كان له سعة وفرج مع الشرك، ثم هو يوم القيامة من المحضرين.
يعني: من المعذبين في النار.
وقال عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} يعني: واذكر يوم يدعوهم يعني: المشركين {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين} يعني: المشركين: {كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} لهم شركاتي في الدنيا {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وجبت عليهم الحجة فوجب عليهم العذاب ويقال وجب عليهم القول وهو قوله: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم} يعني: القادة يقولون ربنا هؤلاء الذين أضللنا يعني: السفلة أغويناهم {كَمَا غَوَيْنَا} أي: أضللناهم كما كنا ضالين.
ويقال: يقول الكافرون {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا} يعني: الشياطين.
فقالت الشياطين: أغويناهم.
يعني: أضللناهم كما غوينا، أي أضللنا {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} من عبادتهم {مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} يعني: ما كانوا يأمرونا بعبادة الآلهة {وَقِيلَ} للكفار {ادعوا شُرَكَائِكُمْ} يعني آلهتكم التي تعبدون من دون الله {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} يقول الله عز وجل: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} يعني: يودون لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا.
ويقال: يودون أن لم يكونوا اتبعوهم.
فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، أي: لم يجيبوهم بحجة تنفعهم فيودون أنهم لم يعبدوهم لما رأوا العذاب.