فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} يعني: يسألهم يوم القيامة {فَيَقُولُ مَاذَا لَمِنَ المرسلين} في التوحيد {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء} يعني: ألبست عليهم الحجج {يَوْمَئِذٍ} من الهول {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} يعني: لا يسأل بعضهم بعضًا عما يحتجون به، رجاء أن يكون عنده من الحجة ما لم يكن عند غيره، لأن الله تعالى أدحض حجتهم، وفي الدنيا إذا اشتبهت عليه الحجة، ربما يسأل عن غيره، فيلقنه الحجة، وفي الآخرة آيس من ذلك.
ثم قال الله عز وجل: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ} يعني: من الشرك {وَعَمِلَ صالحا} فيما بينه وبين الله تعالى: {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي: من الناجين الفائزين بالخير.
قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} وذلك أن الوليد بن المغيرة كان يقول: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني به نفسه وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف فقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} للرسالة من يشاء {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} يعني: ليس الخيار إليهم.
ويقال: هو ربك يخلق ما يشاء، ويختار لهم ما يشاء، {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي ما كان لهم طلب الخيار، والأفضل.
ويقال: ما كان لبعضهم على بعض فضل، والله تعالى هو الذي يختار.
وقال الزجاج: الوقف على قوله، {وَيَخْتَارُ}.
والمعنى وربك يخلق ما يشاء، ويختار.
ثم قال: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي لم يكن لهم أبدًا يختاروا على الله، ويكون ما للنفي.
قال: ووجه آخر أن تكون بمعنى الذي يعني، وربك يخلق ما يشاء، ويختار الذين لهم الخيرة أن يدعوهم إليه من عبادته، ما لهم فيه الخيرة.
ويقال: ما كان لهم الخيرة.
يعني: ليس لهم أن يختاروا على الله عز وجل، وليس إليهم الاختيار، والمعنى لا نرسل الرسل إليهم على اختيارهم.
ثم قال: {سبحان الله} أي تنزيهًا لله {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني: ما تضمر وتسر قلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} من القول {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ} يعني: لا خالق ولا رازق غيره {لَهُ الحمد في الاولى والآخرة} أي: في الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: يعني يحمده أولياؤه في الدنيا، ويحمدونه في الجنة ويقال: له الألوهية في الدنيا والآخرة، وله الحكم، يعني نفاذ الحكم، والقضاء يحكم في الدنيا والآخرة بما يشاء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} يعني: ألا تنظرون إلى نعمة الله تعالى في خلق الليل والنهار لمصلحة الخلق، فلو جعل {عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا} أي دائمًا {إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} المواعظ، وتعتبرون بها.
قوله عز وجل: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} يعني: دائمًا {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} يعني: تقرّون تريحون فيه {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} من يفعل ذلك بكم، لأن العيش لا يصلح إلا بالليل والنهار، فأخبر عن صنعه لمصلحة الخلق، ليشكروه ويوحدوه ويعبدوه فقال: {وَمِن رَّحْمَتِهِ} أي ومن نعمته وفضله {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} يعني: في الليل وجعل لكم النهار {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني: لتطلبوا من رزقه في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون رب هذه النعمة.
ثم قال عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} يعني: {أَنذَرَهُمْ} بذلك اليوم ويقال: معناه اذكر ذلك اليوم الذي يناديهم أي: يدعوهم {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها لي شريك {وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: أخرجنا من كل أمة نبيها ورسولها {شَهِيدًا} بالرسالة والبلاغ {فَقُلْنَا} للمشركين {هَاتُواْ برهانكم} أي: حجتكم بأن معي شريكًا، فلم يكن لهم حجة {فَعَلِمُواْ أَنَّ الحق لِلَّهِ} يعني: أن عبادة الله هي الحق.
ويقال: علموا أن التوحيد لله.
ويقال: إن الحق ما دعا إليه الله، وأتاهم به الرسول {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعني: اشتغل عنهم بأنفسهم ما كانوا يفترون، يعني: يكذبون في الدنيا يعني: الأصنام.
ويقال: يعني الشياطين.
ويقال: وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، يعني: تشفعوا بما عبدوه من دون الله. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول}.
ابن عباس ومجاهد: فصّلنا، ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنّهم عاينوا الآخرة في الدنيا، وقال أهل المعاني: أي والينا وتابعنا، وأصلة من وصل الجبال بعضها إلى بعض، قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمّة ** وحبل ضعيف ما يزال يوصّل

وقرأ الحسن {وَصَّلْنَا} خفيفة، وقراءة العامة بالتشديد على التكثير {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ} أي من قبل محمد عليه السلام {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} نزلت في مؤمني أهل الكتاب {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن {قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْن} لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر {بِمَا صَبَرُواْ} على دينهم، قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأُوذوا {وَيَدْرَؤُنَ} ويدفعون {بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو} القبيح من القول {أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} أي دين الجاهلين عن الكلبي، وقيل: محاورة الجاهلين، وقيل: لا نريد أن نكون جهالا.
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي من أحببت هدايته، وقيل: من أحببته، نزلت في أبي طالب.
حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاءً قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن زيد بن كيسان، قال: حدّثني أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّه: «قل لا إله إلاّ الله أشهد لك بها يوم القيامة» قال: لولا أن تعيّرني نساء قريش يقلن: إنّه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ}.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: وأخبرنا محمد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو سعيد بن حمدون، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه دخل على عمّه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال: «يا عمي قل: لا إله إلاّ الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب.
فأنزل الله سبحانه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ}.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن مالك، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي، قال: حدّثنا الحسين بن علي بن يزيد المدايني، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الفضل بن العباس الهاشمي، قال: حدّثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن محمد بن جبير عن مطعم، عن أبيه قال: لم يستمع أحد الوحي يلقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أبو بكر الصديق، فإنّه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده يوحى إليه فسمع {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}.
{وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَك} الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنّه قال للنبي عليه السلام أنّا لنعلم إنّ الذي تقول حقّ، ولكن يمنعنا إتباعك أنّ العرب تتخطّفنا من أرضنا، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله سبحانه: {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} مكة.
قال الله سبحانه: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} وذلك أنّ العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فيقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ} يجلب ويجمع، قرأ أهل المدينة ويعقوب {تجبى} بالتاء لأجل الثمرات واختاره أبو حاتم وقرأ غيرهم بالياء كقوله: {كُلِّ شَيْءٍ} واختاره أبو عبيد قال: لأنّه قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل {رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي أشرت وطغت، فكفرت بربّها، قال عطاء بن رياح: أي عاشوا في البطر والأشر وأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، وجعل الفعل للقرية وهو في الأصل للأهل وقد مضت هذه المسألة {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا} يعني فلم يعمر منها إلاّ أقلها، وأكثرها خراب، قال ابن عباس: لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق يومًا أو ساعة {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} نظيره قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40] وقوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} [آل عمران: 180].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} بكفر أهلها {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا} يعني مكة {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} كافرون {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بالياء أبو عمرو، يختلف عنه الباقون بالتاء.
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} يعني الجنة {فَهُوَ لاَقِيهِ} مدركه ومصيبه {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} في النار، نظيره قوله سبحانه: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} [الصافات: 57] قال مجاهد: نزلت في النبي عليه السلام وفي أبي جهل بن هشام. محمد بن كعب: في حمزة وعلي وفي أبي جهل. السدي: عمار والوليد بن المغيرة.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا أنّهم شركائي {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وجب عليهم العذاب وهم الرءوس عن الكلبي، غيره: الشياطين {رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ} منهم {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ} لبني آدم الكفار {ادعوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} جواب {لو} مضمر، أي لو كانوا يهتدون لما رأوا العذاب، وقيل معناه: ودّوا إذا رأوا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين فَعَمِيَتْ} فخفيت واشتبهت {عَلَيْهِمُ الأنباء} يعني الأخبار والأعذار والحجج {يَوْمَئِذٍ} لأنّ الله سبحانه قد أعذر إليهم في الدنيا، فلا يكون لهم حجة ولا عذر يوم القيامة {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} لا يجيبون، قتادة: لا يحتجّون، وقيل: يسكتون، لا يسئل بعضهم بعضًا، مجاهد: لا يتساءلون بالأنساب كما كانوا يفعلون في الدنيا، نظيره قوله سبحانه: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
{فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} وهذا جواب لقول الوليد بن المغيرة: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أخبر الله سبحانه أنّه لا يبعث الرسل باختيارهم.
وهذا من الجواب المفصول، وللقراء في هذه الآية طريقان:
أحدهما: أن يمرّ على قوله: {وَيَخْتَارُ} {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} ويجعل {ما} إثباتًا بمعنى الذي، أي ويختار لهم ما هو الأصلح والخير.
والثاني: أن يقف على قوله: {وَيَخْتَارُ} ويجعل ما نفيًا أي ليس إليهم الاختيار، وهذا القول أصوب وأعجب إليّ كقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، قال: أنشدني أبو جعفر محمد بن صالح، قال: أنشدنا حماد بن علي البكراوي لمحمود بن الحسن الوراق:
توكل على الرحمن في كلّ حاجة ** أردت فإنّ الله يقضي ويقدر

إذا ما يردْ ذو العرش أمرًا بعبده ** يصبْه وما للعبد ما يتخيّر

وقد يهلك الإنسان من جه حذره ** وينجو بحمد الله من حيث يحذر

وأنشدني الحسين بن محمد، قال: أنشدني أبو الفوارس حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري:
العبد ذو ضجر والربّ ذو قدر ** والدهر ذو دول والرزق مقسوم

والخير أجمع فيما اختار خالقنا ** وفي اختيار سواه اللؤم والشوم

روى سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي» رضوان الله عليهم أجمعين «فجعلهم خير أصحابي، وفي كلّ أصحابي خير، واختار أُمتي على سائر الأمم، واختار لي من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي: القرون الأول والثاني والثالث تترى والرابع فردي».
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا جعفر بن أحمد الواسطي، قال: حدّثنا محمد بن عبيد قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب السلمي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه في قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال: اختار من الغنم الضأن ومن الطير الحمام.
{سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} دائمًا لا نهار معه.
{مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة} لا ليل فيه {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا} وأخرجنا وأحضرنا {مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فعلموا} حينئذ {أَنَّ الحق لِلَّهِ} يعني التوحيد والصدق والحجة البالغة {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون}. اهـ.