فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

{ولقد وصلنا}.
قال ابن عباس: بيّنا، وقال الفراء: أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضًا {لهم} أي: خاصة فكان تخصيصهم بذلك منّة عظيمة يجب عليهم شكرها {القول} أي: القرآن، قال مقاتل: بيَّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا {لعلهم يتذكرون} أي: ليكون حالهم حال من يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق، ثم كأنه قيل هل تذكر منهم أحد؟ قيل نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقًا تذكروا وذلك معنى قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله} أي: قبل القرآن أو قبل محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {هم به} أي: بما تقدّم {يؤمنون} أيضًا: نزل في جماعة أسلموا من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مقاتل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير هم أربعون رجلًا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له يا نبيّ الله إنّ لنا أموالًا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ذلك إلى قوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} وعن ابن عباس: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام، ثم وصفهم الله تعالى بقوله تعالى: {وإذا يتلى} أي: تتجدّد تلاوة القرآن {عليهم قالوا} أي: مبادرين لذلك {آمنا به} ثم عللوا ذلك بقولهم {إنه الحق} أي: الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه {من ربنا} أي: المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم {إنا كنا من قبله} أي: القرآن {مسلمين} أي: منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ حق.
{أولئك} أي: العالو الرتبة {يؤتون أجرهم مرّتين} أي: لإيمانهم به غيبًا وشهادة أي: بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني {بما صبروا} أي: بسبب صبرهم على دينهم، وقال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده» ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفًا على يؤمنون مشيرًا إلى تجديد هذه الأفعال كل حين {ويدرؤن} أي: يدفعون {بالحسنة} من الأقوال والأفعال {السيئة} أي: فيمحونها بها، وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل: يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي: بالصفح والعفو.
{ومما رزقناهم} أي: بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلًا كان أو كثيرًا {ينفقون} أي: يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه، ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى: {وإذاسمعوا اللغو} أي: ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه {أعرضوا عنه} تكرّمًا عن الخنا، وقيل اللغو: القبيح من القول؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تبًا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم {وقالوا} وعظًا وتسميعًا لقائله {لنا} خاصة {أعمالنا} لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون {ولكم} أي: خاصة {أعمالكم} لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم {سلام عليكم} متاركة لهم وتوديعًا ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه، لا سلام تحية وإكرام، ونظير ذلك {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} (الفرقان) ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى حاكيًا عنهم: {لا نبتغي} أي: لا نكلف أنفسنا أن نطلب {الجاهلين} أي: لا نريد شيئًا من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجبًا، ونزل في حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت} أي: نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال: أي: عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}.
وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {إنك لا تهدي من أحببت} الآية، وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتوحيد فقال له لولا أن تعيرني قريش تقول إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى الآية وروي أنّ أبا طالب قال عند موته يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدًا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية {أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى في آية أخرى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}.
أجيب: بأنه لا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس}.
{وهو أعلم} أي: عالم {بالمهتدين} أي: الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد، ثم حكى الله تعالى عن كفار قريش شبهة تتعلق بأحوال الدنيا بقوله تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى} أي: الإسلام فنوحد الله تعالى من غير إشراك {معك} وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس {نتخطف} أي: من أيّ خاطف أرادنا لأنا نصير قليلًا في كثير من غير نصير {من أرضنا} كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوّتهم فيسرعوا إلينا فيتخطفونا، أي: يتقصدون خطفنا واحدًا واحدًا فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض.
قال المبرد: والخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكنا إن اتبعناك على دينك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، ثم ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة وألقمهم الحجر بقوله تعالى: {أو لم نمكن} أي: غاية التمكين {لهم} أي: في أوطانهم ومحلّ سكناهم بما لنا من القدرة {حرمًا آمنا} أي: ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها حتى إن سيل الحلّ لا يدخل الحرم بل إذا وصل إليه عدل عنه، وروي أنّ مكة كانت في الجاهلية لا يعرضها ظلم ولا بغي ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يتعرّض له بسوء، وروى الأزرقي في تاريخ مكة عن حويطب بن عبد العزى قال: كان في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشلّ.
وعن ابن عباس قال: أخذ رجل ذود ابن عمّ له فأصابه في الحرم فقال: ذودي فقال اللص: كذبت قال فاحلف فحلف عند المقام فقام ربّ الذود بين الركن والمقام باسطًا يديه يدعو فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة مالي ولفلان رب الذود فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود ودفعه إلى المظلوم فخرج به وبقي الآخر حتى وقع من جبل فتردّى فأكلته السباع.
وعن ابن جريج: أنّ غير قريش من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثيابًا فجاءت امرأة لها جمال فطافت عريانة فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها فأدنى عضده من عضدها فالتزقت عضده بعضدها فخرجا من المسجد هاربين فزعين على وجوههما لما أصابهما من العقوبة فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا فعادا ودعوا وأخلصا النية فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية.
وعن عبد العزيز بن رواد أنّ قومًا انتهوا إلى ذي طوى فإذا ظبي قد دنا منهم فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه: ويحك أرسله فجعل يضحك وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ثم أرسله فناموا في القائلة ثم انتبهوا فإذا بحية متطوّقة على بطن الرجل الذي أخذ الظبي فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحدث مثل ما كان من الظبي.
وعن مجاهد قال: دخل قوم مكة تجارًا من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ليأتدموا بها فبينما قدرهم على النار يغلي لحمه إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعًا ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم.
وعن أيوب بن موسى أنّ امرأة في الجاهلية كان معها ابن عمّ لها صغير فقالت له: يا بني إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد فإن جاءك ظالم بعدي فإنّ لله بمكة بيتًا سيمنعك فجاءه رجل فاسترقه فلما رأى الغلام البيت عرفه بالصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت فجاءه سيده فمدّ يده إليه ليأخذه فيبست يده فمدّ الأخرى فيبست فاستفتى فأفتي أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ففعل فأطلقت يداه وترك الغلام وخلى سبيله.
وعن أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنّ رجلًا من كنانة بن هذيل ظلم ابن عمّ له فخوّفه بالدعاء في الحرم فقال هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء في الحرم فجاء في الحرم في الشهر الحرام فقال اللهمّ إني أدعوك جاهدًا مضطرًّا على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق.