فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السادس: إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحًا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعًا إلى حكمته وعلمه سبحانه، لمن هو أهل له. لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم. فسبحان الله وتعالى عما يشركون.
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فصل: فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالًا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته. وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص، المشهور أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله وصدق رسوله. فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبهًا على ما وراءه، دالًّا على ما سواه. فخلق الله السموات سبعًا. فاختار العليا منها فجعلها مستقرَّ المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه. وأسكنها من شاء من خلقه. فلها مزية وفضل على سائر السموات. ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيل والتخصيص، مع تساوي مادة السموات، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار. ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها. وفي بعض الآثار: إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه. ومن هذا اختياره من الملائكة، المصطفين منهم على سائرهم. كجبريل وميكائيل وإسرافيل. وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم. واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم. واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم. ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم. ثم اختار منهم نبي كنانة بن خزيمة. ثم اختار من ولد كنانة قريشًا. ثم اختار من قريش بني هاشم. ثم اختار من بني هاشم، سيد ولد آدم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين. واختار منهم السابقين الأولين. واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان. واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها. واختار أمته.
صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم. ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها. وهي البلد الحرام. فإنه سبحانه اختاره لنبيّه، وجعله مناسك لعباده. وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق. فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رءوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا. وجعله حرمًا آمنًا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه، ولا يلتقط لُقَطته للتملك. بل للتعريف ليس إلا. ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض. فخير الأيام عند الله يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر كما في السنن. وأفضل الشهور شهر رمضان. وعشره الأخير أفضل الليالي. وليلة القدر أفضل من ألف شهر. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام. انتهى ملخصًا. وقد أوسع المقال وجوّد الاستدلال. فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه.
وقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللهِ} أي: تنزيهًا لله الذي لا يزاحم اختياره اختيارٌ: {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [69- 71].
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} أي: تخفي: {صُدُورُهُمْ} أي: من الكيد المكر: {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: من الأقوال والأفعال: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} أي: لأنه المولى للنعم كلها في الدارين: {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي: القضاء النافذ في كل شيء. يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته. ويحكم عليه بموجب إرادته: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بالبعث للجزاء: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي: هذا الكلام الحق، سماع تدبر.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي: هذه المنفعة فتقوموا بشكرها: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: في الليل: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: في النهار: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: نعمه الظاهرة والباطنة، والجسمانية والروحانية، باستعمالها فيما وجب من طاعته. وذلك فيما خلقت له.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا} أي: وأخرجنا: {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: نبيًّا يشهد عليهم بما كانوا عليه. كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41]، {فَقُلْنَا} أي: لكل أمة من تلك الأمم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: على ما أنتم عليه. أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم. وظهر برهان النبيّ، كما قال تعالى: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي: في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي: غاب عنهم غيبة الضائع: {ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: من الباطل والمذاهب المختلفة، والطرق المتشعبة المتفرقة. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}.
مضت قصة موسى عليه السلام بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي. فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها؛ ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل، يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة؛ ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير. يجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون، وفي مشاهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمر؛ بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود. وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان؛ وما كان حاضر أحداثها، ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير، رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك، {فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}.
{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونًا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويًا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثلما أوتي موسى! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}.
والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتًا مع موسى عليه السلام بعد أجل محدد. ثلاثين ليلة، أتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة على ما ذكر في سورة الأعراف وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح، لتكون شريعته في بني إسرائيل. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدًا لهذا الميقات، حتى يعلم نبأه المفصل، كما ورد في القرآن الكريم. وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونًا من الناس أي أجيالًا متطاولة: {ولكنا أنشأنا قرونًا فتطاول عليهم العمر}. فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير، الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم.
ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين، ومقام موسى عليه السلام بها وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان مقيمًا في أهل مدين، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه: {ولكنا كنا مرسلين} بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين.
كذلك صوَّر القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} وما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم النداء، وما سجل في وقتها تفصيلاته. ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء، أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم فيما يدعوهم إليه، لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل، منذ أبيهم إسماعيل: {لعلهم يتذكرون}.
فهي رحمة الله بالقوم، وهي حجته كذلك عليهم، كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب فأراد الله أن يقطع حجتهم، وأن يعذر إليهم، وأن يقفهم أمام نفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}.
كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول. ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة. ولكنهم حين جاءهم الرسول، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثلما أوتي موسى! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون}.
وهكذا لم يذعنوا للحق، واستمسكوا بالتعلات الباطلة: {قالوا لولا أوتي مثلما أوتي موسى} إما من الخوارق المادية، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة، وفيها التوراة كاملة.
ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم، ولا مخلصين في اعتراضهم: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} ولقد كان في الجزيرة يهود، وكان معهم التوراة، فلم يؤمن لهم العرب، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة. ولقد علموا أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه الحق، وأنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب؛ فلم يذعنوا لهذا كله، وادعوا أن التوراة سحر، وأن القرآن سحر، وأنهما من أجل هذا يتطابقان، ويصدق أحدهما الآخر: {قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون} فهو المراء إذن واللجاجة، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين، ولا ضعف الدليل.
ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج. يقول لهم: إن لم يكن يعجبكم القرآن، ولم تكن تعجبكم التوراة؛ فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين}!
وهذه نهاية الإنصاف، وغاية المطاولة بالحجة، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر، الذي لا يستند إلى دليل: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
إن الحق في هذا القرآن لبين؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. وإنهما لطريقان لا ثالث لهما: إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى، وعندئذ لابد من الإيمان والتسليم. وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق. ولا حجة من غموض في العقيدة، أو ضعف في الحجة، أو نقص في الدليل. كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.
{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم}.
وهكذا جزما وقطعا. كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها. إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين. متجنون لا حجة لهم ولا معذرة، متبعون للهوى، معرضون عن الحق الواضح: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}. وهم في هذا ظالمون باغون: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن، ولم يحيطوا علمًا بهذا الدين. فما هو إلا أن يصل إليهم، ويعرض عليهم، حتى تقوم الحجة، وينقطع الجدل، وتسقط المعذرة. فهو بذاته واضح واضح، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله. {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم، وعرضه عليهم، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل.
{ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون}.
وحين تنتهي هذه الجولة، فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية. تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم، وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا بهإنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}.
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: {يس والقرآن الحكيم} حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا؛ ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}. إلخ.
وروى محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلًا أو قريبًا من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه، وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام، في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال؟ ما نعلم ركبًا أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرًا.