فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم المأمور به بطريق النهي، عن خلاف المأمور به، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروفِ بأنه لا يشير بالخير، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شُعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عُمر: «ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدَّنِيَّة في ديننا» وكما قال سهل بن حنيف يوم صفين أيها الناس اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله فِعْلَه لفَعَلْنا والله ورسوله أعلم بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلاّ خيرًا، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدًا تنبيهًا لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السَّلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام. اهـ.

.قال الماوردي:

واختلفوا فيمن أبان به عدوانه على قولين:
أحدهما: بامتناعه من السجود لآدم.
والثاني: بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 62]. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فقال أبو مسلم الأصفهاني: إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره، وأقول: الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله: {حم والكتاب المبين} [الزخرف: 1، الدخان: 1] ولا يعني بقوله مبينًا إلا ذلك. فإن قيل: كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه.
قلنا: إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله: من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال: إن فلانًا عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمي بيانًا لهذا المعنى، فإنه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه. اهـ.

.فصل في قراءة: {السِّلْم}:

قال ابن عادل:
قوله: {السِّلْم} قرأ هنا {السَّلْم} بالفتح نافعٌ، والكِسائيُّ، وابنُ كثيرٍ، والبَاقُونَ بالكَسْر، وأمَّا التي في الأَنْفال [آية 61] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه، عَنْ عاصِمٍ، والتي في القِتال [آية: 35] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضًا، وسيأتي. فقِيل: هَما بمعنىً، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا}، وحَكَوْا: بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ، وسَلْمٌ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ، وهو الانقيادُ، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] الإسلامُ: إسلامٌ الهدي، والسِّلْم على الصُّلْح، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ؛ وأنشدوا: الوافر:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ** رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا

يُنْشَدُ بالكَسْرِ، وقال آخرُ في المفتُوحِ: البسيط:
شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا ** فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ

فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ {السَّلَم}.
وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكَسْرِ الإِسلامُ، وبالفتحِ الصلحُ.
قال أبُو عُبَيدة: وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ: السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

كلَّف المؤمِنَ بأن يُسالِمَ كل أحدِ إلا نَفْسَه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده؛ فإن مَنْ سَالَم نَفْسَه فَتَرَ عن مجاهداته، وذلك سبب انقطاع كل قاصد، وموجِبُ فترةِ كل مريد.
و{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وتركِ نزعاتٍ لا عِبْرة بها، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليها، بل كما قال الله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلقِيهِ في اليَمِّ} [القصص: 7] ثم أَبْصِرْ ما الذي فعل به حين أَلْقَتْه، وكيف ردَّه إليها بعدما نجَّاه. اهـ.

.سؤال في كون الشيطان عدوا لنا:

فإن قيل: كون الشيطان عدوًا لنا إما أن يكون بسبب أنه يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب، والأول باطل، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإن كان الثاني فهو أيضًا باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] إذا ثبت هذا فكيف يقال: إنه عدو مبين العداوة، والحال ما ذكرناه؟.
الجواب: أنه عدو من الوجهين معًا أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك، وليس يلزم من كونه مريدًا لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادرًا عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محرومًا عن الثواب، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة. اهـ.

.بحث نفيس: السّلام العالمي في ظلّ الإسلام:

بعد الإشارة إلى الطائفتين المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين في الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كلّ المؤمنين إلى السِّلم والصلح وتقول: {يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة}.
سلم وسلام في اللّغة بمعنى الصّلح والهدوء والسكينة، وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطّاعة، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى، ويُستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلاّ في ظلّ الإيمان، وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب في الدنيا، لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الإضطرابات والنّزاعات دائمًا، فلولا القوّة المعنويّة للإيمان لكان الصّلح مستحيلًا، بل يُمكن القول أنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعيّة إلى الصّلح والسّلام يُستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة.
واضحٌ أنّ الأطر الماديّة الأرضيّة من اللّغة والعنصر و... هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتّصال محكمة تربط بين قلوب النّاس، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الاختلافات، الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحجّ الّذي يُعتبر نموذجًا بارزًا إلى اتّحاد الأقوام البشريّة بمختلف ألوانها وقوميّتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافيّة وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانيّة في منتهى الصّلح والصّفاء، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى وكيف أنّ الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على أعراضهم ونواميسهم يتّضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصّلح والأمان والسّلام والطمأنينة.
ويُحتمل أيضًا في تفسير الآية أنّ بعض أهل الكتاب اليهود والنصارى عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته.
ثمّ تضيف الآية: {ولا تتّبعوا خطوات الشّيظان إنّه لكم عدوٌّ مبين}.
وقد مرّ بنا في تفسير الآية [168] من هذه السورة الإشارة إلى أنّ كثير من الانحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجيّة على شكل مراحل حيث يسمّيها القرآن {خطوات الشيطان}.
{خطوات} جمع خطوة وهنا تكرّرت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادةالأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادّة وخطرة كما في المثل العربي المعروف إنّ بدو القتال اللّطام.
فتارةً تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدّي إلى الحرب والدّمار، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدّي شرارات الشرّ الأولى لاشتعال لظى المعارك والحروب.
وجدير بالذّكر أنّ هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرّات وفي غايات مختلفة.
وذكر بعض المفسّرين أنّ عبدالله بن سلام وأتباعه الذين كانوا من اليهودوأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعضأحكامها، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان.
ومن شأن النزول هذا يتبيّن أنّ الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة، فيجب التصدّي للخطوات الأولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.
وتتضمّن جملة {إنّه لكم عدوٌّ مبين} برهانًا ودليلًا حيًّا حيث تقول إنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلاّ المخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان. اهـ.

.تفسير الآية رقم (209):

قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أقام سبحانه وتعالى الأدلة على عظمته التي منها الوحدانية وأزال الشبه ومحا الشكوك وذكر بأنواع اللطف والبر إلى أن ختم الآيتين بما ذكر من ولايته وعداوة المضل عن طريقه سبب عن ذلك قوله: {فإن زللتم} مشيرًا بأداة الشك إلى أنهم صاروا إلى حالة من وضوح الطريق الواسع الأمكن الأمين المستقيم الأسلم يبعد معها كل البعد أن يزلوا عنه ولذلك قال: {من بعد ما جاءتكم البينات} أي بهذا الكتاب الذي لا ريب فيه. قال الحرالي: بينات التجربة شهودًا ونبأ عما مضى وتحققًا بما وقع، وقال: إن التعبير بأن يشعر بأنهم يستزلون، والتعبير بالماضي إشعار بالرجوع عنه رحمة من الله لهم كرحمته قبل لأبويهم حين أزلهما الشيطان فكما أزل أبويهم في الجنة عن محرم الشجرة أزلهم في الدنيا عن شجرة المحرمات من الدماء والأموال والأعراض- انتهى.
ولما كان الخوف حاملًا على لزوم طريق السلامة قال: {فاعلموا} فإن العلم أعون شيء على المقاصد {أن الله} الحاوي لصفات الكمال {عزيز} لا يعجزه من زل ولا يفوته من ضل {حكيم} يبرم ما لا يقدر أحد على نقض شيء منه. اهـ.