فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ}:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ} يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به، وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الإنحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل.
فتوعد تعالى على كل ذلك زجرًا لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه، وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقًا به وحينئذ يجب الاحتراز عنه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} أي: عصيتم أو كفرتم، أو أخطأتم، أو ضللتم، أقوال: ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله: ادخلوا في السلم، أي الإسلام، فإن زللتم عن الدخول فيه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأصل الزلل الزلَق أي اضطراب القدَم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به، واستعمل الزلل هنا مجازًا في الضُّر الناشئ عن اتباع الشيطان من بناءِ التمثيل على التمثيل؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضًا بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله: {زللتم} تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازًا والمجاز هنا في مركبه. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ} فيه سؤال وهو أن الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفًا بعواقب الأمور، وأجاب قتادة عن ذلك فقال: قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ البينات}:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ البينات} يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالمًا بالمعلومات كلها، قادرًا على الممكنات كلها، غنيًا عن الحاجات كلها، ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر، والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية، وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزول عند حصول كل هذه البينات. اهـ.
واستدرك هنا أبو حيان على العلامة الفخر فقال: والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول، فلا ينسب إليها المجيء إلاَّ مجازًا، وفيه بُعد. اهـ.
والبينات: حجج الله ودلائله، أو محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال: {حتى تأتيهم البينة رسول من الله} وجمع تعظيمًا له، لأنه وإن كان واحدًا بالشخص، فهو كثير بالمعنى: أو القرآن قاله ابن جريج، أو التوراة والإنجيل قال: {ولقد جاءكم موسى بالبينات} وقال: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} وهذا يتخرج على قول من قال: إن المخاطب أهل الكتاب، أو الإسلام، أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات. اهـ.

.قال الطبري:

وقد قال عدد من أهل التأويل إن {البينات} هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق، لأن الله جل ثناؤه، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وإنما قال تعالى: {من بعد ما جاءتكم البينات} إعذار لهم، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين، لأنه ما أوحاه الله إلاّ لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين، لأن الله عزيز لا يهن لأحد، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالةَ على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}:

.قال ابن عاشور:

قوله: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} جواب الشرط، و{أن الله عزيز حكيم}، مفعول {اعلموا}، والمقصود علم لازمه وهو العقاب. اهـ.

.قال الفخر:

لقائل أن يقول: إن قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات} إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم، فكيف يدل قوله: {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} على الزجر والتهديد.
الجواب: أن العزيز من لا يمنع عن مراده، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة، وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات، فكان عزيزًا على الإطلاق، فصار تقدير الآية: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب، وربما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره، فإن قيل: أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد؟ قلنا: نعم من حيث أتبعه بقوله: {حَكِيمٌ} فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال الفخر:

احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال: لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات، ولفظ {البينات} لفظ جمع يتناول الكل، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات، فوجب أن لا يحصل الوعيد، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع.
قال أبو علي الجبائي: لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار: السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم، لأن من فعل السفه وأراده كان سفيهًا، والسفيه لا يكون حكيمًا أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيمًا إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقًا لكل الأشياء ومريدًا لها، بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا: لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه.
قلنا: هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمرًا بما لا يتم إلا به، وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا: لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق، قلنا هذا عندنا جائز والله أعلم.
يحكى أن قارئًا قرأ: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فسمعه أعرابي فأنكره، وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقريب من هذا ما ذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ: والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالًا من الله والله غفور رحيم، وبجنبي أعرابي فقال كلامُ مَنْ هذا؟ قلت كلامُ الله، قال: ليس هذا كلامُ الله فانتبهتُ فقرأت {والله عزيز حكيم} [المائدة: 38] فقال أصبتَ هذا كلام الله فقلت أتقرأ القرآن؟ قال لا قلتُ من أين علمت؟ قال يا هذا عَزَّ فَحَكَم فقطعَ ولو غَفر ورَحم لَمَا قَطَع. اهـ.

.قال القرطبي:

وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرًا بترك الشرائع. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات}.
فيه سؤالان الأول أن قبلها {ادخلوا فِي السِّلْمِ} والأمر بالدخول يقتضي أنّهم غير مسلمين وقول الله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ} يقتضى أنَّهم مسلمون ثم زلوا بعد ذلك قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} وأجيب بأنّه مثل: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} لأن الكفار لما كانوا متمكنين من الإيمان فكأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل.
السؤال الثاني: الآية خرجت مخرج التقسيم لحالهم والتقسيم الأصل فيه أن يكون بالواو. تقول: العلم إما تصور وإمّا تصديق، ولا يجوز عطفه بالفاء، فقسم حال هؤلاء إلى من دخل في الإسلام ولم يتبع الشيطان وإلى من زلّ عن الإسلام بعد مجئ البينات فهلا عطفه بالواو؟
وأجيب بأن الفاء تقتضي السبب فقصد التنبيه على أنهم ضلوا بسبب هذه الآيات التي كانت سببا في هداية غيرهم. قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} لاسيما مع مذهبنا أنّ ارْتِبَاط الدّليل بالمدلول عادي، وعبر بإن دون إذا تنفيرا عن الزلل حتى كأنه غير واقع.
قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قيل لابن عرفة: هل يؤخذ منه إثبات هاتين الصفتين لله تعالى بالسماع؟
فقال: إنما المراد العلم بلازم ذلك وهو العقوبة والانتقام ممن زلّ. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ وَمَا يُبْدِيهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَأْكِيدِ مَا يُظْهِرُهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ مَا يُعْجِبُكَ ظَاهِرُهُ {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ضَمَائِرَهُمْ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ أَقْوَالِهِمْ، وَجَعَلَهُ عِبْرَةً لَنَا فِي أَمْثَالِهِمْ لِئَلَّا نَتَّكِلَ عَلَى ظَاهِرِ أُمُورِ النَّاسِ وَمَا يُبْدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا، فَلَا نَقْتَصِرُ فِيمَا أُمِرْنَا بِائْتِمَانِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْإِنْسَانِ دُونَ الْبَحْثِ عَنْهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءَ حَالِ مَنْ يُرَادُ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فِي أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ ظَاهِرَهُمْ حَتَّى يَسْأَلَ وَيَبْحَثَ عَنْهُمْ؛ إذْ قَدْ حَذَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَمْثَالَهُمْ فِي تَوْلِيَتِهِمْ عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} فَكَانَ ذِكْرُ التَّوَلِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى ظَاهِرِ مَا يُظْهِرُهُ دُونَ الِاسْتِبْرَاءِ لِحَالِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وَهُوَ وَصْفٌ لَهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الْخُصُومَةِ، وَالْفَتْلِ لِلْخَصْمِ بِهَا عَنْ حَقِّهِ وَإِحَالَتِهِ إلَى جَانِبِهِ؛ وَيُقَالُ: لَدَّهُ عَنْ كَذَا إذَا حَبَسَهُ؛ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أَنَّهُ أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ خُصُومَةً.
وَقَوْلُهُ: {وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} نَصَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْل الْإِجْبَارِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهُوَ لَا يُرِيدُهُ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ فَهُوَ لَا يُحِبُّهُ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَهَذَا يُوجِب أَنْ لَا يَفْعَل الْفَسَادَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ مُرِيدًا لَهُ وَمُحِبًّا لَهُ؛ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ فِعْلَ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ مُرِيدًا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُرِيدُ.
وَيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ لِكَوْنِ الْفِعْلِ هِيَ إرَادَتَهُ لَهُ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحِبَّ كَوْنَهُ وَلَا يُرِيدَ أَنْ يَكُونَ، بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ؛ وَهَذَا هُوَ التَّنَاقُضُ، كَمَا لَوْ قَالَ يُرِيدُ الْفِعْلَ وَيَكْرَهُهُ لَكَانَ مُنَاقِضًا مُخْتَلًّا فِي كَلَامِهِ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وَالْمَعْنَى: إنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلَاثًا وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ؛ وَكَرِهَ لَكُمْ الْقِيلَ وَالْقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»، فَجَعَلَ الْكَرَاهَةَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ مَا أَرَادَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ، كَمَا أَنَّ مَا كَرِهَهُ فَلَمْ يُرِدْهُ؛ إذْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِرَادَةِ كَمَا هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ نَقِيضًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْإِرَادَةِ، وَالْمَحَبَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.
قَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فَإِنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْمَنِيعُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِزَّةِ الِامْتِنَاعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَرْضٌ عَزَازٌ، إذَا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً بِالشِّدَّةِ، وَالصُّعُوبَةِ.
وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَالِمُ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَزَلْ حَكِيمًا وَالْمَعْنَى الْآخَرُ: مِنْ الْفِعْل الْمُتْقَن الْمُحْكَمِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَزَلْ حَكِيمًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا فَوَصْفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ، وَالسَّفَهَ، وَالْقَبَائِحَ وَلَا يُرِيدُهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَقْلِ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أَهْلِ الْجَبْرِ. اهـ.