فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} عطف على جملة {وآتيناه من الكنوز} [القصص: 76] إلى آخرها مع ما عطف عليها وتعلق بها، فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمنًا قصيرًا بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفًا وازدهاء.
فالتقدير: قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج، أي رفض الموعظة بقوله وفعله. وتعدية خرج بحرف {على} لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفِّع، و{في زينته} حال من ضمير خرج.
والزينة: ما به جمال الشيء والتباهي به من الثياب والطيب والمراكب والسلاح والخدم، وتقدم قوله تعالى: {ولا يُبْدين زينتهن} في سورة [النور: 31].
وإنما فصلت جملة {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ولم تعطف لأنها تتنزل منزلة بدل الاشتمال لما اشتملت عليه الزينة من أنها مما يتمناه الراغبون في الدنيا.
وذلك جامع لأحوال الرفاهية وعلى أخصر وجه لأن الذين يريدون الحياة الدنيا لهم أميال مختلفة ورغبات متفاوتة فكل يتمنى أمنية مما تلبس به قارون من الزينة، فحصل هذا المعنى مع حصول الأخبار عن انقسام قومه إلى مغترين بالزخارف العاجلة عن غير علم، وإلى علماء يؤثرون الآجل على العاجل، ولو عطفت جملة {قال الذين يريدون} بالواو وبالفاء لفاتت هذه الخصوصية البليغة فصارت الجملة إما خبرًا من جملة الأخبار عن حال قومه، أو جزء خبر من قصته.
و{الذين يريدون الحياة الدنيا} لما قوبلوا ب {الذين أوتوا العلم} [القصص: 80] كان المعنيُّ بهم عامة الناس وضعفاء اليقين الذين تلهيهم زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصر بصائرهم عن التدبر إذا رأوا زينة الدنيا فيتلهفون عليها ولا يتمنون غير حصولها فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أن إيمانهم ضعيف فلذلك عظم في عيونهم ما عليه قارون من البذخ فقالوا {إنه لذو حظ عظيم} أي إنه لذو بخت وسعادة.
وأصل الحظ: القِسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا.
والتوكيد في قوله: {إنه لذو حظ عظيم} كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)}.
{وَقَالَ الذين أُوتُوا العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} عطف على جملة {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} [القصص: 79] فهي مشاركة لها في معناها لأن ما تشتمل عليه خرجة قارون ما تدل عليه ملامحه من فتنة ببهرجته وبزته دالة على قلة اعتداده بثواب الله وعلى تمحضه للإقبال على لذائذ الدنيا ومفاخرها الباطلة ففي كلام {الذين أوتوا العلم} تنبيه على ذلك وإزالة لما تستجلبه حالة قارون من نفوس المبتلين بزخارف الدنيا.
وويل اسم للهلاك وسوء الحال، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة البقرة (79).
ويستعمل لفظ ويل في التعجب المشوب بالزجر، فليس {الذين أوتوا العلم} داعين بالويل على الذين يريدون الحياة الدنيا لأن المناسب لمقام الموعظة لين الخطاب ليكون أعون على الاتعاظ، ولكنهم يتعجبون من تعلق نفوس أولئك بزينة الحياة الدنيا واغتباطهم بحال قارون دون اهتمام بثواب الله الذي يستطيعون تحصيله بالإقبال على العمل بالدين والعمل النافع وهم يعلمون أن قارون غير متخلق بالفضائل الدينية.
وتقديم المسند إليه في قوله: {ثواب الله خير} ليتمكن الخبر في ذهن السامعين لأن الابتداء بما يدل على الثواب المضاف إلى أوسع الكرماء كرمًا مما تستشرف إليه النفس.
وعدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله: {لمن آمن وعمل صالحًا} دون: خير لكم، لما في الإظهار من الإشارة إلى أن ثواب الله إنما يناله المؤمنون الذين يعملون الصالحات وأنه على حسب صحة الإيمان ووفرة العمل، مع ما في الموصول من الشمول لمن كان منهم كذلك ولغيرهم ممن لم يحضر ذلك المقاموَعَمِلَ صالحا وَلاَ يُلَقَّاهَآ.
يجوز أن تكون الواو للعطف فهي من كلام {الذين أوتوا العلم} أمروا الذين فتنهم حال قارون بأن يصبروا على حرمانهم مما فيه قارون.
ويجوز أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة من جانب الله تعالى علّم بها عباده فضيلة الصبر.
وضمير {يلقاها} عائد إلى مفهوم من الكلام يجري على التأنيث، أي الخصلة وهي ثواب الله أو السيرة القويمة، وهي سيرة الإيمان والعمل الصالح. والتلقية: جعل الشيء لاقيًا، أي مجتمعًا مع شيء آخر. وتقدم عند قوله تعالى: {ويلقون فيها تحية وسلامًا} في سورة الفرقان (75).
وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي لا يعطى تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون؛ لأن الصبر وسيلة لنوال الأمور العظيمة لاحتياج السعي لها إلى تجلد لما يعرض في خلاله من مصاعب وعقبات كأداء فإن لم يكن المرء متخلقًا بالصبر خارت عزيمته فترك ذاك لذاك.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)}.
دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله.
والخسف: انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها، وعكسه. يقال: خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت، فهو يستعمل قاصرًا ومتعديًا، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال. وأما قولهم: خسفت الشمس فذلك على التشبيه.
والباء في قوله: {فخسفنا به} باء المصاحبة، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها، وتقدم قوله تعالى: {أن يخسف الله بهم الأرض} في سورة النحل (45) وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره، وهما رجلان من سبط روبين وغير دار قارون، فهو معجزة لموسى عليه السلام.
جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح وهو قارون ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح قارون وخيام جماعته. وقال موسى: إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب. فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلًا. وقد كان قارون معتزًا على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم، فلذلك قال الله تعالى: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله} إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم، {وما كان من المنتصرين} كما كان يحسب. يقال: انتصر فلان، إذا حصل له النصر، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه.
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}.
{أصبح} هنا بمعنى صار.
و{الأمس} مستعمل في مطلق زمن مضى قريبًا على طريقة المجاز المرسل.
و{مكان} مستعمل مجازًا في الحالة المستقر فيها صاحبها، وقد يعبر عن الحالة أيضًا بالمنزلة.
ومعنى {يقولون} أنهم يجهرون بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعًا إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده.
وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى: {ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء} الآية.
وكلمة {ويكأن} عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاث كلمات: وي وكاف الخطاب وأن.
فأما وي فهي اسم فعل بمعنى: أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيهًا عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما أن فهي أن المفتوحة الهمزة أخت إن المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جرّ ملتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع أن جائزًا فصار في هذا التركيب واجبًا وهذا الحرف هو اللام أو من فالتقدير: أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء.
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال: وي بمعنى أعجب، ويقال ويك بمعناه أيضًا قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

ويقال: {ويكأن} كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي:
ويكأن من يكن له نشبٌ يُحـ ** ـبَبْ ومن يفتقر يعش عيش ضرّ

فخفّف أن وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب ويك مفصولة عن أن وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد.
وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين وي وكأن التي للتشبيه.
والمعنى: التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين.
والمعنى: أما تعجب كأن الله يبسط الرزق.
وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في الكشاف إلى الكوفيين وأبو عمرو بصري أنها مركبة من أربع كلمات كلمة ويل وكاف الخطاب وفعل اعلم وأن.
وأصله: ويلك أعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل اعلم فصار وَيْكَأنّه.
وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزًا لمجموع كلماته فكانت مثل النحت.
ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على {ويكأنه} بتمامه والبعض يقف على وي والبعض يقف على ويك. ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضًا بذلك وأعلنوه.
والبسط: مستعمل مجازًا في السعة والكثرة.
و{يقدر} مضارع قدر المتعدي، وهو بمعنى: أعدى بمقدار، وهو مجاز في القلة لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير قال تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فَليُنْفِق مما آتاه الله لا يكلِّف الله نفسًا إلا ما ءاتاها} [الطلاق: 7].
وفائدة البيان بقوله: {من عباده} الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم.
ومعنى {لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا} لولا أن منَّ الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به، أو لولا أن منّ الله علينا بأن لم نكن من شيعة قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه، أو لولا أن منّ الله علينا بثبات الإيمان.
وقرأ الجمهور {لَخُسِف بنا} على بناء فعل خُسِف للمجهول للعلم بالفاعل من قولهم: لولا أن منّ الله علينا. وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين، أي لخسف الله الأرض بنا. وجملة {ويكأنه لا يفلح الكافرون} تكرير للتعجيب، أي قد تبين أن سبب هلاك قارون هو كفره برسول الله.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}.