فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} تقرير لذلك أيضًا أي سيردك إلى معاد كما أنزل إليك القرآن العظيم الشأن وما كنت ترجوه، وقال أبو حيان والطبرسي: هو تذكير لنعمته عز وجل عليه عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} على ما ذهب إليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن ألقاه تعالى إليك رحمة منه عز وجل، وجوز أن يكون استثناءً متصلًا من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الإلقاء على أبلغ وجه، فيكون المعنى ما ألقى إليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيرًا للكافرين} أي معينًا لهم على دينهم، قال مقاتل: إن كفار مكة دعوه صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} أي الكافرون {عَنْ ءايات الله} أي قراءتها والعمل بها.
{بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي بعد وقت إنزالها وإيحائها إليك المقتضى لنبوتك ومزيد شرفك، وقرأ يعقوب {يَصُدُّنَّكَ} بالنون الخفيفة وقرىء {يَصُدُّنَّكَ} مضارع أصد بمعنى صدّ حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه وقال الشاعر:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ** صدود السواقي عن أنوف الحوائم

{وادع} الناس {إلى رَبّكَ} إلى عبادته جل وعلا وتوحيده سبحانه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} بمظاهرتهم.
{وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} أي ولا تعبد معه تعالى غيره عز وجل، وهذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام إياهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشرية بحيث ينهي عنه من لا يتصور وقوعه منه أصلاف، وروى محيي السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أهل دينه وهو في معنى ما حكى عنه الطبرسي أن هذا وأمثاله من باب:
إياك أعني واسمعي يا جاره

{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وحده {كُلّ شَىْء} أي موجود مطلقًا {هَالِكٌ} أي معدوم محض، والمراد كونه كالمعدوم وفي حكمه {إِلاَّ وَجْهَهُ} أي إلا ذاته عز وجل وذلك لأن وجود ما سواه سبحانه لكونه ليس ذاتيًا بل هو مستند إلى الواجب تعالى في كل آن قابل للعدم وعرضة له فهو كلا وجود وهذا ما اختاره غير واحد من الأجلة، والكلام عليه من قبيل التشبيه البليغ، والوجه بمعنى الذات مجاز مرسل وهو مجاز شائع وقد يختص بما شرف من الذوات، وقد يعتبر ذلك هنا، ويجعل نكتة للعدول عن إلا إياه إلى ما في النظم الجليل.
وفي الآية بناءً على ما هو الأصل من اتصال الاستثناء دليل على صحة إطلاق الشيء عليه جل وعلا، وقريب من هذا ما قيل: المعنى كل ما يطلق عليه الموجود معدوم في حد ذاته إلا ذاته تعالى، وقيل: الوجه بمعنى الذات إلا أن المراد ذات الشيء، وإضافته إلى ضميره تعالى باعتبار أنه مخلوق له سبحانه نظير ما قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} [المائدة: 116] من أن المراد بالنفس الثاني نفس عيسى عليه السلام وإضافته إليه تعالى باعتبار أنه مخلوق له جل وعلا، والمعنى كل شيء قابل للهلاك والعدم إلا الذات من حيث استقبالها لربها ووقوفها في محراب قربها فإنها من تلك الحيثية لا تقبل العدم، وقيل: الوجه بمعنى الجهة التي تقصد ويتوجه إليها، والمعنى كل شيء معدوم في حد ذاته إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهو الوجود الذي صار به موجودًا، وحاصله أن كل جهات الموجود من ذاته وصفاته وأحواله هالكة معدومة في حد ذاتها إلا الوجود الذي هو النور الإلهي، ومن الناس من جعل ضمير وجهه للشيء وفسر الشيء بالموجود بمعنى ما له نسبة إلى حضرة الوجود الحقيقي القائم بذاته وهو عين الواجب سبحانه، وفسر الوجه بهذا الوجود لأن الموجود يتوجه إليه وينسب، والمعنى كل منسوب إلى الوجود معدوم إلا وجهه الذي قصده وتوجه إليه وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو عين الواجب جل وعلا، ولا يخفى الغث والسمين من هذه الأقوال، وعليها كلها يدخل العرش والكرسي والسموات والأرض والجنة والنار، ونحو ذلك في العموم.
وقال غير واحد: المراد بالهلاك خروج الشيء عن الانتفاع به المقصود منه إما بتفرق أجزائه أو نحوه، والمعنى كل شيء سيهلك ويخرج عن الانتفاع به المقصود منه إلا ذاته عز وجل، والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط فيؤول المعنى إلى قولنا: كل موجود في وقت من الأوقات سيهلك بعد وجود إلا ذاته تعالى، فيدل ظاهر الآية على هلاك العرش والجنة والنار والذي دل عليه الدليل عدم هلاك الأخيرين.
وجاء في الخبر أن الجنة سقفها عرش الرحمن، ولهذا اعترض بهذه الآية على القائلين بوجود الجنة والنار الآن والمنكرين له القائلين بأنهما سيوجدان يوم الجزاء ويستمران أبد الآباد، واختلفوا في الجواب عن ذلك فمنهم من قال: إن كلًا ليست للإحاطة بل للتكثير كما في قولك: كل الناس جاء إلا زيدًا إذا جاء أكثرهم دون زيد، وأيد بما روي عن الضحاك أنه قال في الآية: كل شيء هالك إلا الله عز وجل والعرش والجنة والنار، ومنهم من قال: إن المراد بالهلاك الموت والعموم باعتبار الإحياء الموجودين في الدنيا، وأيد بما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: كل حي ميت إلا وجهه.
وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: لما نزلت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] قيل يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله تعالى وبريته من الطير والوحوش والسباع والأنعام وكل ذي روح أنه هالك ميت، وأنت تعلم أن تخصيص الشيء بالحي الموجود في الدنيا لابد له من قرينة فإن اعتبر كونه محكومًا عليه بالهلاك حيث شاع استعماله في الموت وهو إنما يكون في الدنيا قرينة فذاك وإلا فهو كما ترى، ومن الناس من التزم ما يقتضيه ظاهر العموم من أنه كل ما يوجد في وقت من الأوقات في الدنيا والأخرى يصير هالكًا بعد وجوده بناءً على تجدد الجواهر وعدم بقاء شيء منها زمانين كالإعراض عند الأشعري، ولا يخفى بطلانه، وإن ذهب إلى ذلك بعض أكابر الصوفية قدست أسرارهم.
وقال سفيان الثوري: وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به إليه عز وجل، فقيل: في توجيه الاستثناء إن العمل المذكور قد كان في حيز العدم فلما فعله العبد ممتثلًا أمره تعالى أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه أو أنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، وروي عن أبي عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه أنه ارتضى نحو ذلك، وقال المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به وجهه تعالى، وزعم الخفاجي أن هذا كلام ظاهري.
وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي جعله في الناس وهو كما ترى لا وجه له، والسلف يقولون الوجه صفة نثبتها لله تعالى ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة {لَهُ الحكم} أي القضاء النافذ في الخلق {وَإِلَيْهِ} عز وجل: {تُرْجَعُونَ} عند البعث للجزاء بالحق والعدل لا إلى غيره تعالى ورجوع العباد إليه تعالى عند الصوفية أهل الوحدة بمعنى ما وراء طور العقل.
وقيل: ضمير إليه للحكم، وقرأ عيسى {تُرْجَعُونَ} مبنيًا للفاعل، هذا والكلام من باب الإشارة في آيات هذه السورة أكثره فيما وقفنا عليه من باب تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ولعله يعلم بأدنى تأمل فيما مر بنا في نظائرها فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو إعلان عام للمؤمنين والكافرين. للمصلحين والمفسدين. للذين يعلمون الصالحات، والذين يقترفون السيئات. إن لكل حسابه وجزاءه.
أما أهل الإحسان، فيجزون بإحسانهم إحسانا مضاعفا. فضلا من اللّه وكرما. وأما أهل السوء، فيجزون بسوئهم سواء مثله، حقا من اللّه وعدلا.
وقد أفرد الضمير في مقام الإحسان، حيث تختلف منازل المحسنين، فيما يجزون به على إحسانهم. الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، واللّه يضاعف لمن يشاء. فهذا مقام الفضل، ينزل فيه اللّه عباده منازلهم من فضله ورحمته.
أما أهل السوء، فهم على حال واحدة. السيئة بالسيئة ولا زيادة. فهم في مقام العدل. الذي يقتضى المساواة. ولهذا جمع ضمير أهل السوء. {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
فرض القرآن على الرسول، هو حمله عليه حملا كاملا. حيث يتلقاه من ربه، ويستقيم على كل آية منه، ويبلغه إلى الناس، ويجاهدهم به.
والمعاد الذي يرد إليه الرسول، هو لقاء ربه، وتلقى ما وعده اللّه به من رضا ورضوان.
وإذن فهذا القرآن المفروض على الرسول الكريم، هو الرفيق الذي يعيش مع الرسول في الدنيا، ويلقى اللّه به في الآخرة، حيث يجىء ومعه المحصول الوفير، من مغارس الإيمان التي غرسها القرآن في الأرض، فكان منها هذه الأمة المسلمة، التي تأخذ مكانها في المحشر، وقد رفع على رأسها علم التوحيد! وفي هذا يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} [71: الإسراء] ويقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا} [41: النساء].
وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هو إلفات إلى هذا القرآن الذي فرض على الرسول، وهو الهدى، الذي من اتبعه اهتدى ورشد، ومن خالفه ضل وغوى.
قوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ}. أي أن هذا القرآن الذي فرضه اللّه عليك- أيها النبي- لم يكن عن أمنية تمنيتها، ولا عن سعى سعيت له. فذلك مما لا يحصل بالسعي، ولا يستدعى بالأمانى. وإنما هو رحمة خالصة من عند اللّه، يختص بها من يشاء من عباده، ويضعها حسب ما يقضى به علمه في خلقه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [124: الأنعام].
وقوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} هو بدل من {أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ} وهو في تأويل مصدر مفعول به لترجو. والمعنى: ما كنت ترجو كتابا يلقى إليك من ربك، ولكن كنت نرجو رحمة منه. وها قد جاءتك الرحمة عامة شاملة من ربك في اصطفائك للرسالة، ولكتابها الكريم. {إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [87: الإسراء].
وقوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ} هو تعقيب على هذه؟ العظيمة، وتلك النعمة الكبرى، وهذه الرحمة العامة الشاملة، التي ينبغى أن يأخذ كل إنسان حظه منها، إذا هو التمسها، ودخل في حماها. وهؤلاء هم المؤمنون. أما الكافرون فلا نصيب لهم منها.
وإذن، فالذى ينبغى أن يكون عليه شأن الرسول مع هذه الرحمة الشاملة التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى بين يديه- هو أن يجعلها قوة تظاهر المؤمنين، وتقوّى جبهتهم، إزاء الكافرين والمشركين وأهل الضلال جميعا، لأنها قوة من قوى الحق، ومن شأنها أن تخلص لأهل الحق وحدهم.
والنهى الموجه للنبى في قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ} هو دعوة للنبى إلى اليأس من هؤلاء المشركين من قومه، الذين قال اللّه فيهم: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [41: المائدة] وقال سبحانه: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [37: النحل] ذلك أن وقوف النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- هذا الوقوف الطويل مع المشركين المعاندين من قومه، طمعا في إيمانهم، هو على حساب المؤمنين، أو الذين يستجيبون للإيمان، حيث تلك هي المواطن الصالحة للغرس، والإنبات والإثمار، وهي المواطن التي ينبغى أن يوجه الرسول إليها كلّ جهده. وقد عاتب اللّه سبحانه وتعالى النبي الكريم في ابن أم مكتوم الأعمى، المؤمن، الذي جاء يستزيد من الرسول إيمانا، ويطلب هدى، والرسول في لقاء مع بعض وجوه القوم، من المشركين، وفي جدل حاد، يرجو الرسول من ورائه أن تلين قلوب الجماعة، وتدخل في دين اللّه- فقال تعالى معاتبا لرسوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ} [1- 11. عبس] وقد دخل موسى عليه السلام في تجربة كتلك التجربة، حين أخذته عاطفة العصبية لقومه، وما كانوا يلقون من ظلم على يد فرعون وقومه. وقد تمثل له ذلك فيما وقع بين المصري والإسرائيلى، وقد انتصر موسى للإسرائيلى، على المصري. فلما خرج من تلك التجربة، استشعر الندم، واستغفر ربه، ونذر نعمة القوة التي في كيانه، أن تكون دائما للحق، ومع الحق حيث كان، فقال: {رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ولعل هذا هو بعض السر في الجمع بين هاتين الآيتين في هذه السورة.
قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هو تحذير للنبى من هؤلاء المشركين من قومه، وذوى قرابته، الذين يدعونه إلى أن يدع ما هو فيه، حتى لا يكون بموقفه هذا سببا في تمزيق وحدة قومه، وإلقاء العداوة بينهم، حتى يقتل بعضهم بعضا. فهذه قريش لا تريد الدخول في دينه، وهؤلاء أهله الأدنون يأبون أن يتخلّوا عنه، ويتركوه لقريش ترميه بالأذى. وهذا عمه أبو طالب يدعوه إلى أن يرفق به وبأهله، وألا يحملهم على مواجهة قريش، فيقول له لرسول الكريم قولته الخالدة تلك: «و اللّه يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه»- وقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} هذا فوق أنه تحذير للنبيّ من أن تغلبه عاطفة الحرص على أهله أن يصيبهم سوء من أجل انتصارهم لعصبيتهم فيه- هو تثبيت لقلب النبيّ، وترسيخ لقدمه في القيام على دعوته، وألا يلفته شيء عنها. فلتذهب الدنيا كلها، ولتبق راية الحقّ قائمة في يده.
وفي قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} دعوة إلى قطع كل رابطة من قرابة أو نسب، وإلى التضحية بكل عاطفة بينه وبين أهله، إذا كان في ذلك جور على دعوته، وتحيّف على شيء من عزمه وإرادته في القيام بتبليغها، والجهاد بها. فهو في تلك الحال ليس من أهله هؤلاء المشركين. إن أهله وقرابته هم المؤمنون: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [91: النمل] فالمؤمنون هم أهل الرسول، وهم قرابته.
قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. بهذه الآية تختم سورة القصص. وهي تعزل النبيّ عزلا تاما عن قومه المشركين، الذين يدعون مع اللّه آلهة أخرى. فهو على طريق، وهم على طريق. هو له دينه، وهم لهم دينهم، فلا جاممة تجمع بينه وبينهم إن لم يجمعهم الاجتماع على دين اللّه، وعلى إخلاص العبودية له وحده، لا إله إلا هو.
فإذا سلم للمرء دينه، وخسر كل شىء، فهو الذي ربح كل شيء ولم يخسر شيئا. لأن كلّ شيء هالك وإلى زوال، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.
وإذن فلا حساب لأهل، أو مال، أو ولد، مع الدّين الذي يشد الإنسان إلى اللّه، ويقيمه على ولاء له. فالأهل والمال، والولد، وكل شيء هالك، فيصبح الإنسان أو يمسى ولا شيء له، أو معه من هذا، ثم يلتفت فلا يجد إلا ما ادخر عند اللّه من إيمان وتقوى. {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [46: الكهف] وفي قوله تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هو إلفات إلى اللّه سبحانه وتعالى، وإلى أنه جلّ شأنه المتفرّد بالبقاء، وبالحكم بين العباد، يوم يرجعون إليه. فالذين كانوا على ولاء مع اللّه، يدخلون في ظلّ هذا الولاء، فيجدون الأمن والسلام، والذين عادوا اللّه وحادّوه، وكفروا به وبرسله، يظلمون في العراء، بعيدين عن هذا الظل الكريم الرحيم، {أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}. اهـ.