فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قلنا: إن كلمة {خيرٍ} تُطلق ويُراد بها ما يقابل الشر، كما في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
وتُطلق ويُراد بها الأحسن في الخير، تقول: هذا خير من هذا، فكلاهما فيه خير، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير» فهي بمعنى التفضيل، أي: أخير منها، ومن ذلك قول الشاعر:
زَيْدٌ خِيارُ النَّاسِ ** وابْنُ الأَخْيرِ

فجاء بصيغة التفضيل على الأصل، وتقول: هذا حَسَن، وذلك أحسن.
فالمعنى هنا: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [القصص: 84] أي: خير يجيئه من طريقها، أو إذا عمل خيرًا أعطاه الله أخير منه وأحسَن، والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها.
والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة، فيقول سبحانه: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
فقوله تعالى: {مَن جَاءَ بالحسنة} [القصص: 84] قضية عقدية، تثبت وتُقرِّر الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومعنى {مَن جَاءَ بالحسنة} [القصص: 84] أي: أتى بها حدثًا لم يكُنْ موجودًا، فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتَها بما خلق الله فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل الخير.
أو المعنى: جاء بالحسنة إلى الله أخيرًا لينال ثوابها، ولا مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها ليُقبل بها على الله، فيجازيه بها في الآخرة.
لكن، هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الآخرة، أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة الآخرة؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضًا في الدنيا، لكن مجموعها يكون لك في الآخرة.
وهذه الآية جاءت بعد الحديث عن قارون، وبعد أن نصحه قومه، وجاء في نصحهم: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] إذن: فطلبهم أن يُحسن كما أحسن الله إليه جاء في مجال ذكر الحسنة، والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه الإنسان؟ لا، لأن الإنسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب عليه المضرة، وقد يكره الشيء ولا يستطيبه، ويأتي له بالنفع.
فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة، فلا يحددها إلا الله تعالى، الذي خلق الناس، ويعلم ما يُصلحهم، وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الأشياء، ويعلم ما يترتب عليها من آثار، أما الإنسان فقد خلقه الله صالحًا للخير، وصالحًا للشر، يعمل الحسن، ويعمل القبيح، وربما اختلطت عليه المسائل.
لذلك يقولون في تعريف الحسنة: هي ما حسَّنه الشرع، لا ما حسَّنْتها أنت، فنحن مثلًا نستسيغ بعض الأطعمة، ونجد فيها متعة ولذة، مع أنها مُضرة، في حين نأنف مثلًا من أكل الطعام المسلوق، مع أنه أفيد وأنفع؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4] لأن الطعام قد يكون هنيئًا تجد له متعة، لكنه غير مريء ويُسبِّب لك المتاعب بعد ذلك.
الحق سبحانه يقول هنا: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [القصص: 84] فالحسنة خير، لكن، الثواب عليها خيرٌ منها أي: أخير؛ لأنه عطاء دائم باقٍ لا ينقطع، أو خير يأتيك بسببها. كما يقول أصحاب الألغاز واللعب بالكلمات: محمد خير من ربه، والمعنى: خير يصلنا من الله، ولا داعي لمثل هذه الألغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول.
ثم يقول سبحانه: {وَمَن جَاءَ بالسيئة} [القصص: 84] لم يقُل الحق سبحانه: فله أشر منها، قياسًا على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة، وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة الله بخَلْقه، هذه الرحمة التي تتعدَّى حتى إلى العُصَاة من خَلْقه.
لذلك قال: {فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السيئات إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84] أي: على قَدْرها دون زيادة.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى في سورة عم: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَآئِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 31-36]. فحسبانًا هنا لا تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل، إنما تعني كافيهم في كل ناحية من نواحي الخير، ومنه قولنا: حسبي الله يعني: كافيني.
وفي المقابل يقول سبحانه في السيئة: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] أي: على قدرها موافقًا لها.
إذن: فربنا- عز وجل- يعاملنا بالفضل لا بالعدل؛ ليغري الناس بفعل الحسنة، وأنت حين تفعل الحسنة فأنت واحد تُقدِّم حسنتك إلى كل الناس، وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير كلها، فينالك من كل واحد منهم حسنة، وكأنه أوكازيون حسنات يعود عليك أنت.
ثم يقول الحق سبحانه لنبيه: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ}. معنى فرض: ألزم وأوجب وحتَّم. وأصل الفَرْض الحزّ والقطع، كما تقطع شيئًا بالسكين مثلًا تُسمّى فرضًا؛ لأنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها، كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة مُشْتهاها، ويقطع عليها مشيئتها، ويردّها إلى مشيئة الله؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1].
يعني: حتَّمناها وألزمنا بها، والإلزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها، بصرْف النظر عما تشتهيه هي، فقد يأمرها بما تكره، وينهاها عما تحب. إذن: يقطع سيال النفس؛ لأنها عادة ما تكون أمَّارة بالسوء، تنظر إلى العاجل، ولا تهتم بالآجل ولا تعمل له حسابًا.
فالقرآن منهج الله بافعل ولا تفعل، هو الذي يكبح جماح النفس، ويُحدِّد لها مجال مشيئتها؛ لأن الخالق- عز وجل- خلق النفس، وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير، ولعمل الشر.
وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا: إن الخَلْق جميعًا عبيد الله، المؤمن منهم والكافر، وإنْ تأبَّى الكافر على الله في الإيمان، فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى، كالمرض والموت وغيره، ثم أعطانا الله تعالى مجالًا للاختيار، ليثيب من يُثيب بحق، يُعذِّب بحق.
والعاقل حينما يرى أنه مقهور لله في قدريات لا يستطيع منها فكاكًا، وليس له فيها تصرف، فيتنازل عن مراده، وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه، ويرضى أنْ يكون مُسيَّرًا في كل شيء، وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد.
فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من الله إلى مراد الله في الحكم، وبهذا المنطق يكون الجميع في الآخرة عبادًا؛ لأنه لا اختيار لهم، ويستوي في ذلك المؤمن والكافر، يوم يقول سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وسُمِّي إنزال القرآن فَرْضًا لما في القرآن من تكاليف، وهي عادةً ما تكون شاقة على النفس، أَلاَ ترى قوله تعالى عن الصلاة، وهي أم العبادات: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45].
فلا يعرف منزلتها ومكانتها إلا خاشع؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: «أرحنا بها يا بلال» ويقول: «وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة»؛ لأنه أحبها وعشقها، حتى صارت قُرَّة عينه، ومُنْتهى راحته.
إذن: أول ما يفرض التكليف لابد أن يكون شاقًا؛ لذلك يحتاج إلى صلاة إيمان وجَلَد يقين، بحيث تثق في أن العمل الشاق عليك الآن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الآخرة.
ويقول تعالى عن القتال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فلا شكَّ أنه مكروه للنفس، لكن إن استحضرت الجزاء، وعرفتَ أنه: إما النصر، وإما الشهادة، فإنه يحلو لك حتى تعشقه، وتبادر أنت إليه، كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الأجر وكان في فمه تمرة يمضغها فقال: «أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل فأُقتل»؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة القتال.
لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة. ومن هنا يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهوةَ نفْس عندهم: أخشى ألاَّ يُثيبني الله على الطاعة، لماذا؟ يقول: لأنني أصحبتُ أشتهيها، أي: كما يشتهي أهل المعصية المعصية.
وحين يصل الإيمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة، فقد أصبح ربانيًا يثق فيما عند الله من الجزاء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمَتْ قدماه، فلما سألتْه السيدة عائشة: ألم يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
ومعنى: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85] يعني: يجازيك أفضل الجزاء، ونزلتْ هذه الآية لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ الله وآذوْه، حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن نصير، لكنهم لم يكونوا أقلَّ قسوة من أهل مكة، فعزَّ على رسول الله النصير فيها، وعاد منكسرًا حزينًا لم يجد مَنْ يدخل في جواره، إلى أن أجاره مطعم بن عدي.
وتأمل حين يكون رسول الله بجلالة قدره لا يجد مَنْ يناصره، أو يُدخله في جواره، أما الصحابة فلم تكُنْ لهم شوكة بعد، ولا قوة لحماية رسول الله، وفي هذه الفترة لاقوا المشاق في سبيل الدعوة، فحاصرهم الكفار في شِعْب أبي طالب، وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس، ومنعوا عنهم الطعام والشراب، والبيع والشراء، حتى الزواج، وحتى اضطروا إلى أكل المخلَّفات وأوراق الشجر.
لذلك أمرهم الله بالهجرة، والهجرة تكون إلى دار أمن، أو إلى دار الإيمان، إلى دار أمن كالهجرة إلى الحبشة حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبيِّنًا حيثية الهجرة إليها: «إن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد» يعني: النجاشي ملك الحبشة، وفعلًا صدق فيه قول رسول الله، فلما أرسلتْ قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة، رفض أن يسلمهم، وأن يُمكِّن قريشًا منهم، مع أن هدايا قريش كانت عظيمة، والإغراء كان كبيرًا.
وهذا يدل على عظمة رسول الله، وعلى فكره الواسع، وعلى دراسة الخريطة من حوله، ومعرفة مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه، فاختياره ملك الحبشة لا يأتي إلا إما بإلهام من الله، أو بذكاء كبير، وهو رجل أمي في أمة أمية، ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على صدق مقولة رسول الله.
ونتيجة «لا يظلم عنده أحد» فقد شرَّفه الله بالإسلام فأسلم ووكَّله رسول الله في أن يُزوِّجه من السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت رضي الله عنها من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة مع زوجها الذي تنصَّر هناك، وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها.
وفي هذا دليل أولًا: على مدى ما كان يلاقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين، ثانيًا: دليل على الطاعة الواعية للزوج، فقد آثرت الخروج مع زوجها لا عِشْقًا له، ولا هيامًا به، إنما فرارًا معه بدينها؛ لذلك لما تنصَّر لم تتردد في تركه؛ لذلك طلبها رسول الله لنفسه، ثم لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله وترحَّم عليه. هذه هي هجرة الإيمان إلى دار الأمن.
ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار الإيمان، إلى المدينة، بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وبعد أن وجد رسول الله أنصارًا يتحملون معه أعباء الدعوة، وقد ضرب الأنصار في المدينة أروع مَثَل في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته، فلا يضِنّ على غيره بما يملك، فتعطيني سيارتك أركبها، أو بيتك أسكن فيه، أو ثوبك ألبسه، وأتقمَّش به، أما الزوجة فتظل مصونة لا يجرؤ أحد على النظر إليها.
لكن كان للأنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حين أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء حتى في زوجاتهم، فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلادهم، وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة وحاجة النساء.
فكان الواحد منهم يقول لأخيه: انظر إلى زوجاتي، فأيتهنّ أعجبتك أُطلِّقها، وتتزوجها أنت، هذه تضحية لا نجد لها مثيلًا في تاريخ الناس حتى عند الكفرة.
ثم أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فخرج خُفْية في حين خرج عمر مثلًا جهرًا وعلانية، حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه: مَنْ أراد أنْ تثكله أمه، أو ييُتم ولده، أو تُرمَّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي.
أما رسول الله فقد خرج خُفْية، وهذه المسألة يقف عندها البعض أو تَخْفي عليه الحكمة منها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائمًا أُسْوة للضعيف، أما القوي فلا يحتاج إلى حماية أحد، ولا عليه إنْ خرج علانية؛ لذلك لا يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول الله.
ثم إنك حين تتأمل: نعم خرج رسول الله خُفْية لكنها خُفْية التحدي، فقد خرج من بين فتيانهم المتربصين به، وعفَّر وجوههم بالتراب، وهو يقول: «شاهت الوجوه».
ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أنْ يأخذ بأسباب النجاة، فخالف الطريق؛ لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع الأنصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها، وأرسلوا العيون للبحث عنه، وجعلوا جُعْلًا لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم.
والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف، كأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نهمل الأسباب، وألاَّ نتصادم مع الواقع ما دُمْنا قادرين على ذلك.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي بلده، وأحب البلاد إلى قلبه قال: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ، فأسكنِّي أحب البلاد إليك».
لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول الله، فالمدينة محبوبة لله؛ لذلك بعد أن خرج رسول الله من مكة وقارب المدينة حَنَّ قلبه إلى مكة، فطمأنه ربه بهذه الآية: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85].
فالذي فرض عليك مشقة التكاليف، وحمَّلك مشاق الدعوة والإقناع بها، وتنفيذ أحكامها، هو الذي سيردُّك إلى بلدك ردَّ نصر، وردّ فتح، وما أشبهَ ردِّ رسول الله إلى بلده بردِّ موسى عليه السلام إلى أمه في قوله تعالى لأم موسى: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] ليس رَدًَّا عاديًا، إنما {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7].