فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي: بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا، لغرور وتعززه برؤية زينة نفسه: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} أي: من الأموال المدخرة: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} أي: مفاتيح صناديقه. على حذف مضاف. أو الإضافة لأدنى ملابسة. وقيل خزائنه: {لَتَنُوءُ} أي: تثقيل: {بِالْعُصْبَةِ} أي: الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال: {أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} أي: بزخارف الدنيا فرحًا يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي: هذا الفرح، لما فيه من إيثارها عن الآخرة، والرضا بها عنها، والإخلاد إليها. وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} أي: اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك، بعد الفاقة: {الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب. وتجعله زادك إلى الآخرة: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك: {وَأَحْسِنْ} أي: إلى الناس. أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة: {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي: بطرق التجارة أو المكاسب: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} أي: مما سمع بالتواتر: {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} أي: الكثيرة، بحيث صارت سنة له: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} أي: بالأموال والأتباع: {وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال، ليعتذروا عنها. بل متى حق عليها القول بفسقهم، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر. ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، بقوله سبحانه: {فَخَرَجَ} أي: قارون باغيًا: {عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي: مُغْتَرًّا بالنظر فيها: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: جريًا على سنن الجبلة البشرية، من الرغبة في السعة واليسار: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} أي: مما تتمنونه: {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا} أي: هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم. أو الجنة. أو السيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح: {إِلَّا الصَّابِرُونَ} أي: على الطاعات عن الشهوات، وعلى زمام النفس أن تجري في أعقاب المزخرفات. وويلك في الأصل دعاء بالهلاك. والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني، مجازًا. وهو منصوب على المصدرية: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ} أي: المشتملة على أمواله: {الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: بدفع العذاب عنه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أي: بقوة نفسه وما له: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: من شقيّ وسعيد: {وَيَقْدِرُ} أي: يقبض. فلا دلالة في البسط على السعادة. ولا في القبض على الشقاوة. بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقَدْر بمحض مشيئته، لا لكرامة توجب البسط، ولا لهوان يقتضي القبض: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي: بعدم إيتائه متمنانا: {لَخَسَفَ بِنَا} أي: كما خسف به: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي: لنعمة الله في صرفها في غير سبيلها. أو المكذبون برسله اغترارًا بزخارفهم.
فائدة: {في ويكأن} مذاهب:
الأول: أن وي كلمة برأسها. وهي اسم فعل، معناها أعجب. أي: أنا. والكاف للتعليل. وأن وما في حيزها مجرورة بها. أي: أعجب لأن الله يبسط الرزق الخ. وقياس هذا القول أن يوقف على وي وحدها، وقد فعل ذلك الكسائيّ.
الثاني: أنه مركب من وي للتعجب وكأن للتشبيه. والمعنى: ما أشبه الأمر أن الله يبسط. أي: ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقًا إلى آخرٍ، أمرَ قارون وما شوهد من قصته. والأمر مأخوذ من الضمير. فإنه للشأن. والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال، أنه لتحققه وشهرته، يصلح أن يشبه به كل شيء. كما أشار إليه في الكشف.
الثالث: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه. إلا أنه ذهب منها معناه وصارت للخبر واليقين. وهذا أيضًا يناسبه الوقف على وي.
الرابع: زعم الهمداني في الفرائد أن مذهب سيبويه والخليل أن وي للتندم. وكأنّ للتعجب. والمعنى: ندموا متعجبين في أن الله يبسط. إلخ. قال الشهاب: وكون كأن للتعجب، لم يعهد.
الخامس: ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من ويك بمعنى ويلك فخفف بحذف اللام. والعامل في أن اعلم، المقدر. والكاف على هذا ضمير في محل جرّ. وهذا يناسب الوقف على الكاف. وقد فعله أبو عَمْرو.
السادس: أن ويك كلمة برأسها. والكاف حرف خطاب. ويقرب هذا مما قبله. قال أبو البقاء: وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد. والثاني: أن تقدير وي اعلم، لا نظير له، وهو غير سائغ في كل موضع. انتهى.
السابع: أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة. ومعناها ألم تر. وربما نقل ذلك عن ابن عباس. ونقل الفرّاء والكسائيّ أنها بمعنى: أما ترى إلى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رحمة لك في لغة حمير. ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين. فعامة القراء اتبعوا الرسم. والكسائيّ وقف على وي وأبو عَمْرو على ويك.
وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين. وعندي أنها مركبة من وي للتعجب وكأن التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة. والوقف على وي. ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة، لأن الكتابة- كما قال ابن كثير- أمر وضعيّ اصطلاحيّ، والمرجع إلى اللفظ العربي.
وقد اتفق اللغويون على أن وي كلمة تعجب. يقال ويك ووي لزيد، وتدخل على كأن المخففة والمشددة، ومن شواهد الأولى قول الشاعر:
سَالَتَانِي الطلاقَ أَنْ رَأَتَانِي ** قَلَّ مَالي قد جئتماني بنُكْرِ

ويْ كأنْ من يكُنْ لَه نَشَبٌ يُحْـ ** ـبَبْ ومن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ

وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته، بلهَ الاستعمال إلى هذه الأجيال.
قال ابن كثير: وقد ذكر هاهنا إسرائيليات، أضربنا عنها صفحًا. ونحن تأسينا به، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويّه، الموقوف والضعيف الذي سوّدت به الصحف.
ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون، من حال خلص عباده، بقوله سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} أي: غلبة وتسلطًا بسوء وتكبّر: {وَلا فَسَادًا} أي: بظلم وعدوان وصدّ عن سبيل الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ} أي: النهاية الحميدة: {لِلْمُتَّقِينَ} أي: الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال.
قال الزمخشري، قدس الله روحه: لم يعلق الموعد بترك العلوّ والفساد. ولكن بترك إرادتهما، وميل القلوب إليهما. كما قال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113]، فعلق الوعيد بالركون. وعن عليّ رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه. فيدخل تحتها.
وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا. وعن عُمَر بن عبد العزيز، أنه كان يرددها حتى قبض. ومن الطُّمَّاع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون، متعلقًا بقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} (4)، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} (77)، ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون، فله تلك الدار الآخرة. ولا يتدبر قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كما تدبره عليّ والفضيل وعمر رضي الله عنهم {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} معناه: فلا يجزون إلا. إلخ. فوضع فيه الموصول والظاهر، موضع الضمير، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، والزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين.
ومعنى قوله: {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: مثله. وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها. ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة. وهو معنى قوله: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} كذا في الكشاف.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي: أوجب عليك تلاوته على الناس، وتبليغه إليهم، وصدعهم به: {لَرَادُّكَ} أي: بعد الموت: {إِلَى مَعَادٍ} أي: مرجع عظيم. وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه. فتنوينه للتعظيم، ووجهه-كما في العناية- أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر. لأنه ابتداء العود إلى الحياة، ورده على ما كان عليه فجعل معاده عظيمًا لعظمة مقامه فيه.
وقال ابن كثير: المعاد هو يوم القيامة. يسأله عما استرعاه من أعباء النبوّة. كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، وقال: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69] وعن ابن عباس روايات: إلى يوم القيامة. إلى الموت. إلى الجنة أخرجت عنه من طرق. كما أسنده ابن كثير.
والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وعن الضحاك قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة. فنزلت الآية.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيًّا، والله أعلم.
ثم قال: ووجه الجمع بين هذه الأقوال، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح، الذي هو عند ابن عباس على اقتراب أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم. كما فسر ابن عباس سورة: إذا جاء نصر الله والفتح، أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه، وكان ذلك بحضرة عُمَر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت. وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت. وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس. ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق. انتهى.
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} يعني نفسه الكريمة. أي: بما يستحقه من المثوبة: {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعني المشركين. أي: بما يستحقونه من العذاب. والجملة تقرير للوعيد السابق: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي: ما كنت تظن، قبل إنزال الوحي إليك، أن الوحي ينزل عليك: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} أي: معينًا لهم. ولكن نابذهم وخالفهم. وحكى الكرماني في الغرائب أن معناه: فلا تكن بين ظهرانيهم، وأنه أمر بالهجرة.
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} أي: عن تبليغها بعد إنزالها، والأمر بالصدع بها لضيق صدرك من مكرهم. فإن الله معك، ومُعْلٍ كلمتك ومؤيد دينك. ولذا قال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي: إلى عبادته وحده لا شريك له: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}.
قال القاضي: هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين من مساعدته لهم. أي: لأنه لا يتصور منه ذلك حتى ينهى عنه. فكأنه لما نهاه عن مظاهرتهم ومداراتهم، قال إن ذلك مبغوض لي كالشرك. فلا تكن ممن يفعله. أو المراد نهي أمته، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم. كذا في العناية.
{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إياه والوجه يعبر به عن الذات كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام} [الرحمن: 26- 27]، وفي قوله تعالى: {هَالِكٌ} وجوه: حمله على المستقبل، أو هو عرضة للهلاك والعدم، أو هالك في حد ذاته، لأن وجوده ليس ذاتيًا بل لاستناده إلى واجب الوجود، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالًا. والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي. لأن وجود غيره كلا وجود. إذ هو في كل آن قابل للعدم. وعن مجاهد والثوريّ: إلا وجهه أي: ما أريد به وجهه. حكاه البخاري في صحيحه.
قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
أستغفرُ الله ذنبًا لست مُحْصِيَهُ ** رَبُّ العبادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

قال ابن كثير: وهذا القول لا ينافي القول الأول. فإن هذا إخبار عن كل الأعمال، بأنها باطلة، إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. انتهى.
وفيه بُعد وتكلف يذهب رونق النظم، وماء الفصاحة. لاسيما وآي التنزيل يفسر بعضها بعضًا. والآية الثانية التي ذكرناها بمعنى هذه. وتلك لا تحتمل ذاك المعنى، فكذا هذه: {لَهُ الْحُكْمُ} أي: القضاء النافذ في الخلق: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. اهـ.

.قال سيد قطب:

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} مضت مطالع السورة بقصة موسى وفرعون، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم، والكفران بالله، والبعد عن هداه والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق. وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها؛ إنما يكتفي بأن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ هناك روايات تقول: إنه كان ابن عم لموسى عليه السلام وأن الحادث وقع في زمان موسى. ويزيد بعضها فيذكر أن قارون آذى موسى، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال، فبرأ الله موسى وأذن له في قارون، فخسفت به الأرض.
ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات، ولا إلى تحديد الزمان والمكان. فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها. ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئًا ما ترك تحديدها. فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها.
{إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي}.
هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها {قارون} وتحدد قومه {قوم موسى} وتقرر مسلكه مع قومه، وهو مسلك البغي {فبغى عليهم} وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}. ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس. لقد كان قارون من قوم موسى، فآتاه الله مالًا كثيرًا، يصور كثرته بأنه كنوز والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول وبأن مفاتح هذه الكنوز تعيي المجموعة من أقوياء الرجال. من أجل هذا بغى قارون على قومه. ولا يذكر فيم كان البغي، ليدعه مجهلًا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال.