فصل: مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة إبراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى أو لم يروا هنا، جاءت معترضة بين قصة إبراهيم عليه السلام في تذكيره أهل مكة بمناسبة ختام ما ينزل عليهم من القرآن، إذ ينتهي المكي بانتهاء هذه السورة والتي بعدها فقط، لأن الخطاب فيها لسيد المخاطبين الذين أعمه أمرهم وأزعجه تماديهم في الطغيان وآسفه عدم تأثرهم من الآيات التي تذوب لها صم الحجارة وآساه اهانتهم له ولأصحابه واذاهم المترادف، ولم يبق له بعد هذا إلا هجرهم.
قال تعالى فيما يقصه عن سيدنا إبراهيم {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ} تجاه نعمه لهم وإرشاده إياهم وتحذيرهم بطش ربهم {إِلَّا أَنْ قالُوا} بعضهم لبعض عند ختام مذاكرتهم بشأنه كما تقدم في الآية 65 من سورة الأنبياء.
{اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ليذيع خبره في الآفاق فيرتدع من تحدثه نفسه بمثل فعله مع قومه وآلهته، ولهذا اختاروا الإحراق لأنه أكثر سمعة من القتل {فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} التي القوه فيها على الصورة المقدمة في الآية 71 من الأنبياء المارة {إِنَّ فِي ذلِكَ} الفعل الذي فعلوه بإبراهيم وتخليصنا إياه {لَآياتٍ} عظيمات باهرات {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيعتبرون ويتعظون {وَقالَ} إبراهيم بعد خروجه من النار سالما وأمته نمروذ كما تقدم في القصة يا قوم {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا} لأن تكون {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} فقط ثم تنقطع في الآخرة لأنها ليست على تقوى وستكون عليكم وبالا، وهكذا كل صداقة من هذا القبيل راجع الآية 67 من سورة الزخرف المارة {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وذلك لأن الأوثان تنبرا من عابديها وتنكر أنها كانت معبودة لهم وان رؤساءهم الذين أضلوهم يتبرءون منهم أيضا فيقع التشاحن بينهم فتلعن القادة الاتباع، والأتباع القادة، والأوثان عابديها، والعابدون الأوثان، ويكثر اللجاج والخصام بينهم، راجع الآية 31 من سورة سبأ والآية 31 من سورة إبراهيم والآية 47 من سورة المؤمن والآية 20 من سورة السجدة المارات والآية 165 من البقرة فما بعدها العابدين والمعبودين، ويقال لهم حينذاك اخسؤوا لا تكلموا فما لكم من مجيب {وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} يحولون دون تعذيبكم البتة.
قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} فقط بعد ظهور المعجزة العظيمة في النار، وإلا فهو مؤمن من قبل لأن الأنبياء يولدون مؤمنين فلا يتصور فيهم غير الإيمان من بدايتهم حتى نهايتهم {وَقالَ} إبراهيم بعد ذلك كله وقد أيس من إيمان قومه {إِنِّي مُهاجِرٌ} من هذه البلدة {إِلى} حيث أمرني {رَبِّي} لعدم قدرتي على إقامة الدين بين هؤلاء الكفرة، ولم أجد من ينصرني عليهم لتنفيذ أوامر ربي عز وجل.

.مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة إبراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها:

وهو أول من سنّ الهجرة من دار الكفر صيانة لدينه، وآخرهم حفيده محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي عرض اللّه تعالى له هجرة جده إيذانا بهجرته من مكة {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على أمره {الْحَكِيمُ} الذي لا يأمر إلا بما يكون فيه المصلحة ولا يرد هنا مسألة الأصلح لأن الأمر غير الإرادة والاختيار غير الوجوب، تأمل، وراجع إن شئت الآية 149 من الأنعام المارة وما ترشدك اليه.
قال تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ} بعد الهجرة {إِسْحاقَ} من زوجته سارة بنت عمه وكان وهب له قبله إسماعيل من جاريته هاجر {وَ} وهبنا لإسحق {يَعْقُوبَ} في حياته {وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ} أي إبراهيم ولم يصرح باسمه لشهوته وعلو قدره {النُّبُوَّةَ} إذ لم يرسل اللّه نبيا من بعده إلا من ذريته {وَالْكِتابَ} جنسه المشتمل على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن إذ أنزلت كلها على ذريته، ولم ينزل بعدها شيء أبدا {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ} وهو دوام الثناء عليه ومحبته من جميع الأمم على اختلاف مللها ونحلها {فِي الدُّنْيا} فلا تجد أحدا إلا ويثني عليه، وبسبب بقاء ذريته يستمر ذكره الحسن إلى آخر الدوران {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} للقاء اللّه عز وجل، فقد جمع اللّه له خير الدارين، وهو أحق من يكرم بذلك.
قالوا ولما نجى اللّه إبراهيم على الصورة المذكورة في الآية 57 من سورة الأنعام فما بعدها وأذن اللّه له بالهجرة هاجر من أرض بابل إلى الأرض المقدسة هو وزوجته سارة وابن أخيه لوط، فمروا على حران فأقاموا بها زمانا ثم خرجوا إلى الأردن فدفعوا إلى مدينة فيها جبار من القبط اسمه صارولي، وهو الذي تعرض له في ساره، فمنعها اللّه منه ومتعها بهاجر القبطية، وليس المراد أنها تدبن بالقبطية إذ لم تكن الديانة القبطية مشروعة إذ ذاك، ويرجع تاريخ تسهية القبط إلى سبعمئة سنة بعد الطوفان، وإنما سموا قبطا لأنهم نسبوا إلى قبطيم بن مطريم، قالوا وخرج ذلك الجبار من تلك المدينة فورثها إبراهيم وأ ترى بها، وأعطى نصفها إلى لوط، ثم تزوج هاجر بأمر سارة فولدت له إسماعيل وهو ابن ست وثمانين سنة وقيل تسع وتسعين أما إسحق فقد ولدته سارة على طريق المعجزة كما مر في الآية 40 من سورة هود المارة، وكان إبراهيم ابن مئة سنة، وقيل وسبع وعشرة سنة كما في الآية 39 من سورة إبراهيم المارة.
ثم أمر اللّه إبراهيم بالذهاب إلى مكة بإسماعيل وامه، واعلمه بأنه قد بوأه حرمه وأنه يبنى من قبله، فأخذهما ووضعهما عند البيت ورجع لأهله كما مر في القصة.
روى البخاري عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطقة من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتخفي أثرها على ساره، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، فوضعها هناك ووضع عندها جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قضى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟
فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له اللّه أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذا لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بالدعوات المذكورة في الآية 40 فما بعدها من سورته عليه السلام، ثم دعا بالآيات 125 فما بعدها من سورة البقرة وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر اليه يتلوى أو قالت يتلبط فانطلقت كراهية أن ترى حالة ولدها، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم ترى أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما وصار من شعائر الحج، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت صوتا وقالت يا من قد أسمعت إن كان عندك غراث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فيحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، وفي رواية قدر ما تعرف، قال ابن عباس: قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم يرحم اللّه أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم علينا معينا، قال فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا للّه تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه، وان اللّه لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا في الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، أي ولا تناله بشيء فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا العائف المتردد حول الماء فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريّا أو جريين بالتشديد الرسول فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا نعم، قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم فالفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم ونشب الغلام وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته.
أخرجه البخاري بأطول من هذا، وسنأتي على تمام القصة في سورة البقرة إن شاء اللّه.
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} اللواطة المتناهية في الفحش والقبح والخبث التي ابتدعتموها وحدكم {ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} فهم أول من سنها في الأرض، قاتلهم اللّه {أإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ} في أدبارهم {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} الطريق على المارين وتقتلون وتسلبون وتجرون معهم المنكر {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ} مجسكم الذي هو محل مذاكرات أموركم المهمة فيما يتعلق ببعضكم وجيرانكم وغيرهم {الْمُنْكَرَ} اللواطة فينكح بعضكم بعضا فيه، وتتضارطون، وتصفرون، ويحذف بعضكم بعضا بالحصى، وتفرقعون أصابعكم، وتعلكون، وتتبادلون الألفاظ المنكرة البذيئة، وتتهامزون بالخبث والفحش فيها، وهي لم تتخذ إلا للاجتماعات والمداولات بالأمور النافعة كالحرب وصادرات البلاد ووارداتها وحسن الجوار مع الناس والمعاهدات وغيرها، فتوبوا إلى ربكم وارجعوا عن فيكم، واتعظوا بمن سلف منكم، كي لا يحل عليكم عذاب اللّه.
{فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ} بمقابلة نصحه وتحذيره وإرشاده لما فيه خيرهم {إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أن ما نحن عليه قبيح مستوجب للعذاب والآية 82 من الأعراف وهي {وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم} وآية النمل {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} وكلها تدل على الاستخفاف به والاستهزاء بقوله والسخرية به وتهديده، وكان عليه السلام غريبا عنهم، ولم يأت فيما قص اللّه عنه أنه دعاهم إلى عبادة اللّه كما جاء في قصة إبراهيم وشعيب وغيرهما لأنه كان في زمن إبراهيم ومن قومه، وقد سبقه في دعوة التوحيد للّه وعبادته ورفض ما سواه، واشتهر أمره عند أهل زمنه، لذلك كانت دعوة لوط لقومه فيما يختص بالنهي عن الفاحشة والأفعال الأخر الخبيثة المار ذكرها فقط، أما إبراهيم وشعيب كغيرهما من الأنبياء فقد جاء إلى قومهما بعد انقراض من كان يعبد اللّه حال عكوف الناس على عبادة الأوثان، ولم يكن في زمنهما من يدعو إلى اللّه ولذلك انصرفا إلى دعوة التوحيد والاعتراف بالنبوة والمعاد، فلما أيس منهم على النحر الذي تقدم في الآية 80 من سورة هود والآية 132 من سورة الصافات المارتين والآية 81 من سورة الأعراف، دعا عليهم {قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وحقق ولي فيهم، فأجاب اللّه دعاءه.
قال تعالى: {وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى} بإسحاق ويعقوب {قالُوا} أولئك الرسل وهم الملائكة لإبراهيم {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ} التي فيها لوط {إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ} أنفسهم بأعمالهم الخبيثة وإهانتهم رسولهم وتعديهم على الناس، وإنما أخبروه دون أن يسألهم لأنهم يعرفون أن أمر لوط يهمه لقرابته، ولكونه غريبا عمن أرسل إليهم، ولهذا {قالَ} إبراهيم {إِنَّ فِيها لُوطًا} وهو نبي فكيف تهلكونهما {قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها} بإعلام اللّه إيانا {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} لأنها ليست على دينه إنها مطبقا عليه، وإذا فقد الطاقة قال ضاق ذرعي وذراعي ويدي، لأن الأصل في هذا إذا كانت يد الرجل طائلة نال ما لا يناله قصير اليد أي الذراع فصار مثلا بالعجز كما كان لفظ رحب مثلا للقدرة.
فلما عرفت الملائكة ذلك منه لما غشى وجهه من الحزن والكآبة عرفوه بأنفسهم كما مر في الآية 80 من سورة هود المارة {وَقالُوا لا تَخَفْ} علينا منهم {وَلا تَحْزَنْ} على ما نفعله بهم {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} لأنها منهم وراضية بفعلهم، فانزاح عن وجهه الاكفهرار وقال ماذا تفعلون بهؤلاء الفسقة العتاة؟ قالوا {إِنَّا مُنْزِلُونَ} بامر ربنا {عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا} عذابا عظيما لم يحلموا به {مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} ويتجاوزون حدود اللّه ويخرجون عن طاعة رسوله ويتعدون ما أحل إليهم لما حرم عليهم، فخسف اللّه بهم وبقراهم ورجموا بالحجارة، كما سبق بيانه في القصة.
واعلم أن الضمائر في هذه الآيات وإن كانت مضافة للملائكة فهي في الحقيقة إلى اللّه لأنهم جاءوا بأمره، وفعلوا بأمره، وهو الفاعل الحقيقي كل شيء قال تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها} في قراهم بعد تدميرها {آيَةً بَيِّنَةً} يراها من يمر بها لتكون عظة {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إن خرابها كان بسبب فسق أهلها، وذلك بعد أن أمروا لوطا وأهله بالهجرة عنها.

.مطلب تحريم اللواطة وجزاء فاعلها ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم:

واعلم أن في هذه الآيات من ذم اللواطة ما لا يخفى فهي كبيرة إجماعا، وقد نصوا على انها أشد من الزنا حرمة، وجاء في شرح المشارق للأكمل أنها محرمة شرعا وعقلا وطبا، وإن عدم وجود الحد عليها تغليظا لأن الحد مطهر، وهي لخبثها لا يطهرها الحد، إذ لو كان لجعل لها الشارع حدا كالزنى والسرقة والشرب وغيره، ولذلك فإنها مستقبحة مستقذرة، وقد طهر اللّه الجنة من وجودها بل ورودها على خواطر أهلها المطهرين، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لعنها ولعن فاعلها وشريكه فيها، واللّه استبعدها بقوله: {ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} الآية 80. من الأعراف وسماها خبيثة بقوله: {كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ} الآية 75 من الأنبياء المارة وسماها هنا فاحشة، فالجنة منزهة عنها، وأهلها مبرءون منها، ولا يرد على هذا خبث الخمر في الدنيا ووجودها في الآخرة، لأن خبثها في الدنيا ناشيء عن إزالتها العقل الذي هو عقال عن كل خبث، وخمر الآخرة لا يزيله، قال تعالى: {لا فِيها غَوْلٌ} الآية 49 من الصافات المارة، وجاء في الفتوحات المكية أن أهل الجنة لا أدبار لهم، لأن الدبر إنما خلق لخروج الفضلات منه في الدنيا، ولا فضلات في الجنة.
وعلى هذا فعدم وجودها في الجنة ظاهر طبعا، ولا أظن أن ذا غيرة ومروءة تسمح نفسه أن يلاط فيه في الدنيا وهي دار فسق فكيف تتصوره نفسه في الجنة؟ وقدمنا في الآية 84 من سورة الأعراف، وفي الآية 73 من الزخرف المارة بيان مضار هذه الفعلة القبيحة وما يستحقه فاعلها وما جاء في حقه من الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء فراجعها.
قال تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا} أي اذكر لقومك يا محمد بعد هذه القصص الثلاث قصته إذ أرسلناه كما أرسلنا من قبله ومن بعده {فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده واتركوا الأوثان {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} اعتقدوا صحته وتوقعوا حلوله {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لأن العثو هو الفساد {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الحاصلة من هول صيحة الملك {فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} على ركبهم باركين خامدين، أجساد بلا أرواح.
راجع الآية 93 من الأعراف تقف على قصتهم {وَعادًا وَثَمُودَ} أهلكناهم أيضا لتكذيبهم أنبياءهم هودا وصالحا {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ} يا قوم محمد {مِنْ مَساكِنِهِمْ} في الحجر واليمن تشاهدونها بأسفاركم، ففيهما مزدجر وعبرة وعظة لمن يعقل.