فصل: مطلب هل تعلم النبي صلّى اللّه عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا، والنهي عن قراءة الكتب القديمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي عن جابر: قال رجل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق، قال ستنهاه قراءته، وفي رواية:
انه قيل يا رسول اللّه إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال إن صلاته لتردعه على كل حال.
وعليه فإن المراعي للصلاة لابد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها.
وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو إنا نرى كثيرا من المرتكبين الفحشاء والمنكر يصلّون ولا ينتهون لأن منهم من هو غافل عما يراد منه حال قيامه بين يدي ربه لاه عن ذلك، فيكون بالمعنى المار ذكره، ألا ترى أن اللّه تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} الآية 90 من سورة النحل المارة والناس لم يتمثلوا ولم ينتهوا، وليس نهي الصلاة بأعظم من نهي اللّه، تدبر.
وقيل إن الأمر والنهي لا يستلزمان الائتمار والانتهاء.
وقيل إن النهي لا يستلزم الانتهاء، وهذا توهم باطل وتخيل عاطل، لا يشهد له العقل، ولا يؤيده النقل، وما قيل إن نهي الصلاة عبارة عن الزمن الذي يشغله المصلي فيها لما ورد أن في الصلاة لشغلا ليس بشيء أيضا، وما جاء بالخبر أن في الصلاة لشغلا عن كل ما يلهي عنها وعن كل ما في الدنيا بالنسبة لحالة المصلي لأن منهم من إذا دخل في الصلاة تمخضت ذاته لخالفها بحيث لو ضربته بالسيف لما أحسّ، ومنهم من لا تحسبه في الصلاة، كما جاء عنه صلّى اللّه عليه وسلم أن الرجل إذا لم يتم سجودها ولا ركوعها تلف صلاته كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها، فتقول له ضيعك اللّه كما ضيعتني.
والقول الفصل أن الصلاة المقبولة عند اللّه تعالى هي التي تنهى صاحبها، والانتهاء علامة القبولة، وان من يأتي بها ولا ينتهي فلو لم يكن يصلي لكان أشدّ إتيانا للفحشاء وأكثر فعلا للمنكر، والمراد بالصلاة هنا المكتوبة، راجع الآية 5 من سورة المؤمنين المارة، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
من جميع الطاعات، وأفضل وأعظم ثوابا وأكثر أجرا، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبق المفردون بتشديد الراء وتخفيفها يقال فرد الرجل إذا تفقه واعتزل الناس وحده.
وقرئ بالتخفيف والتشديد أبلغ وأتم، قالوا وما المفردون يا رسول اللّه؟ قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات.
وروى البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون اللّه تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللّه فيمن عنده».
وروي أن أعرابيا قال يا رسول اللّه أي الأعمال أفضل؟ قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر اللّه.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: معنى {ولذكر اللّه أكبر} ذكر اللّه إياكم أفضل من ذكركم إياه.
وروي مرفوعا عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهذا مما لا شبهة فيه لأن اللّه يذكر من ذكره قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} الآية 152 من البقرة، وقال صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: من ذكرني ذكرته في ملا خير من ملائه.
وقال ابن عطاء: ذكر اللّه لكم أكبر من ذكركم له، لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم لا يبقى، ولن تبقى مع ذكر اللّه معصية.
وقال سلمان ذكر اللّه أكبر من كل شيء وأفضل، فقد قال عليه الصلاة والسلام ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها لكم عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال ذكر اللّه.
وأخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء بلفظه ومعناه.
وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل، قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه تعالى، قالوا ولا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع.
لأن اللّه تعالى يقول: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وهذا لأنه لو لم يذكر اللّه لم يعرف فضل الجهاد، فذكر اللّه هو السائق للجهاد ولكل عمل صالح.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عزة قال: قلت لابن عباس رضي اللّه عنهما أي العمل أفضل؟ قال ذكر اللّه أكبر، وما قعد قوم في بيت من بيوت اللّه تعالى يدرسون كتاب اللّه ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف اللّه تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره، وما سلك رجل طريقاجل قوله: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ} من اليهود والنصارى إذ لا يوجد غيرهما أهل كتاب، وما عداهما وثنيون مشركون كافرون بأصول الأديان، لأن ذوي الأدبان التي كانت عند بعثة الرسول ستة: الإسلام والنصرانية واليهودية والصابئة والمجوس والمشركون، راجع الآية 16 من سورة الحج، الخطاب لحضرة الرسول وأصحابه تبعا له أي أنكم قادمون بهجرتكم هذه إلى بلدة فيها أهل كتاب مجبولون على حب الجدال لما وقر عندهم مما في الكتب المنزلة على أنبيائهم، ويزعمون أنهم أدرى من غيرهم فيها، فإذا جاءوك ليجادلوك فقابل خشونتهم بلينك، وغلاظتهم بلطفك، وجفاهم بعطفك، وأمسك بادرة الغضب بجبال الكظم، واجعل إقبالك عليهم بدل صدهم عنك، ووصلك بمقابل هجرهم إياك، وعطاءك تجاه منعهم لك، وتقرب منهم كلما تباعدوا عنك.
وهذا معنى قوله تعالى: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية 34 من سورة فصلت المارة، أي لا تجادلهم إلا في هذه الصورة، وادفع مشاغبتهم بالنصح، وسورتهم بالإناءة، ولغطهم بالإرشاد راجع الآية 125 من سورة النحل المارة، واعمل بما بيناه هناك وعضّ عليه بالنواجذ ثم استثنى من المجادلين نوعا خاصا وهم المذكورون بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} وهم المجاوزون الحدّ في العناد والاعتداء الذين لم يلتفتوا إلى النصح، ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعمل معهم الفلسفة.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية 30 من سورة التوبة، ولا مجادلة أشد من السيف، فهو قيل لا يعتد به ولا ينظر إليه، إذ لا يتجه على ما نحن فيه، لأن المراد بالجدال المناظرة وكونها على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره في مبادئ الدعوة للرشد، قال في مجمع البيان الصحيح إنها غير منسوخة.
وقال بعض الأجلة إن المجادلة بالحسنى أوائل الدعوة مطلوبة، لأنها تتقدم المجادلة بالعنف، والمجادلة بالشدة تتقدم القتال، فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية.
وأما كون النهي المستفاد من لا في {ولا تجادلوا} المحتج به صاحب هذا القيل من كونه يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكره من السبب، ويدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى، فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال في مكة ليس بصحيح، لأنه مسكوت عنه، تأمل.
وقرأ ابن عباس الا بالتخفيف على أنه حرف تنبيه وأداة عرض دالة على الطلب بلين ورفق، أي جادلوهم بالتي هي أحسن.
وعلى هذه القراءة لا يرد ما أورده مدعي النسخ البتة {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا} من القرآن {وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وآمنا بما أنزل إليكم من التوراة والإنجيل والزبور من قبل اللّه لا التي بأيديكم كلها، لأنكم حرّفتم وبدلتم بعضها قصدا، وبعضها قد غيرت معناها الترجمة، وهذا القول نوع من المجادلة بالأحسن، أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون كتبهم بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية 136 من البقرة، زاد في رواية: فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم، ولأن التصديق والتكذيب ليسا نقيضين، إذ يجوز ارتفاعهما بالشك.
وليعلم أن هذا الحديث الشريف صدر من النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية لا مقارنا لها، لأنها نزلت بمكة، وهذا القول بالمدينة، وقدمنا في الآية 17 من سورة السجدة المارة أن الأحاديث قد تذكر لمناسبة بعض الآيات سواء كان بعد نزولها أو قبله، مما يدل على معناها، وقولوا لهم أيضا {وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ}.
فرد صمد لا شريك له ولا مثيل ولا ضد ولا ند ولا نظير {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مطيعون منقادون له وحده، وفي هذه الجملة تعريض لهم باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه {وَكَذلِكَ} مثل ما أنزلنا على غيرك من الأنبياء كتبا {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ} القرآن الذي منه هذه الآية الناطقة بما ذكر {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} قبلك من الطائفتين المذكورتين العالمين العاملين المصدقين فيهما كما أنزلناهما {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن المنزل عليك لأنه جاء مصدقا لما فيهما، وهذا خاص بخواصهم الحريّين بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب، كعبد اللّه بن سلام وأصحابه المنصفين، ولا يقال على هذا التفسير تكون الآية مدنية، لأن عبد اللّه بن سلام أسلم بعد الهجرة بكثير، بل الآية مكية على ما سمعت، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن إيمانهم به ترتب على إنزاله على الوجه المذكور، وفيها إعلام من اللّه تعالى بإسلامهم في المستقبل، لقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} ولم يقل آمنوا ليتحمل ذلك القول ويحتج به قائله، تدبر.
{وَمِنْ هؤُلاءِ} قومك أهل مكة ومن حولها الذين رغبوا بإخراجك وعنك وأحبوا قتلك {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أيضا فكن مطمئنا بذلك يا سيد الرسل، إذ ترى ما تقرّ به عينك {وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا} هذه المنزلة عليك في هذا الكتاب {إِلَّا الْكافِرُونَ} بجميع الكتب لأن الجحود لا يكون إلا بعد المعرفة ولهذا شنع عليهم وسماهم كافرين لتوغلهم بالكفر وإصرارهم عليه وتصميمهم على تكذيبك، قال الراغب صاحب السفينة: الجحد نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه.
وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه، وما قيل إنها في حق كعب بن الأشرف وأصحابه لا يصح، لأن الآية مكية، وأولئك بالمدينة، على أنهم يدخلون في مضمونها.

.مطلب هل تعلم النبي صلّى اللّه عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا، والنهي عن قراءة الكتب القديمة:

قال تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا} يا محمد {مِنْ قَبْلِهِ} أي الكتاب المنزل عليك {مِنْ كِتابٍ} أصلا لأنك لم تقرأ: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}.
لأنك أمي لا تكتب، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفي عنه صلّى اللّه عليه وسلم من الخط، فهو مثل العين في قولك نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز {إِذًا} لو كنت تقرأ وتكتب {لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} من قومك وغيرهم ولا تهموك بأنك تنقل من كتب الأقدمين وتتلو عليهم ما تحفظه منها، وإلا لاحتج أهل الكتابين عليك بأنك لست نبي آخر الزمان، لأنه موصوف بكتبهم أنه أمي، وإذا ثبت أنك أمي فليس لهم أن يشكو برسالتك وختمك للأنبياء، ولا يرتابوا بالكتاب الذي أنزل إليك، لأن هذا كله مذكور في التوراة والإنجيل المنزلين من قبلنا على أنبيائهم، تقدم اللّه تعالى إلى رسوله في هذه الآية ليعلمه أنه قادم في هجرته على أناس مذكور في كتبهم نعته على ما هو عليه، وأخبره فيها بأنهم إذا قالوا لك في جملة مجادلتهم أنك لست نبي فقل لهم كيف، وقد أنزل اللّه علي كتابا، وإذا قالوا لك لعلك تعلمته فقل إني أمي، وأهل مكة ومن حولهم يعلمون ذلك لأني لم أبرحهم ولم أتعلم الكتابة من أحد، ولم أكن قارئا، ووصفي موجود لديكم بما يثبت أني خاتم الأنبياء، وهذا مما يزيل الشبهة فيّ، ولو كنت أقرأ وأكتب لشك فيّ مشركو العرب الذين لم يتركوا شبهة إلا وألصقوها فيّ، ولا خصلة تنافي نبوتي إلا وصموني بها، إلا أنهم لم يتهموني بالقراءة والكتابة لتحقق عدمهما فيّ لديهم، وقد وصف أهل مكة بالبطلان باعتبار ارتيابهم بنبوّته ووصفهم له بالسحر والكهانة والتلقي من الغير، وكفرهم به وبكتابه، ومن المعلوم المحقق أن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أمي كما هو الواقع، ومن قال بخلاف هذا فقد خالف كلام اللّه المصرح بأميته في الآية 157 من الأعراف صراحة لا تقبل التأويل، وان أهل مكة الذين كانوا يلتقطون الزلات عليه لو علموا منه ذلك لما سكتوا، بل لأداعوا عنه ذلك، كيف وأنه لما كان يجتمع مع الأغيلمة والعبيد اتهموه بأنه يتعلم منهم مع أنهم عجم لا يفقهون العربية المطلقة، فكيف بالفصحى؟ وقد رد اللّه عليهم في الآية 101 من النحل المارة كذبهم هذا لهذه العلة، فراجعها، فلهذا إن القول بأني غير أمي مخالف لصراحة القرآن، ومخالفته كفر محض لأن كل من ينكر حرفا منه دون تأويل يكفر، وتعليم مثل هذا القرآن ودراسته تحتاج إلى زمن طويل لما فيه من تفصيل الأحكام وبلاغة الكلام وفصاحة الألفاظ، ولا يمكن تلقيه بحالة لم يطلع عليها أهل مكة لأني بين أظهرهم صباح مساء وليل نهار، وهذا قبل النبوة لم يختلف فيه اثنان، أما بعدها فقد وقع اختلاف في تعليمه القراءة فقط، وهذا العلم بالقراءة على طريق المعجزة، ولهذا فإن ما جاء عن مجاهد والشعبي أنه عليه الصلاة والسلام ما مات حتى كتب وقرأ، وروى هذا ابن أبي شيبة أيضا، وإن حجتهم ما رواه ابن ماجه عن أنس قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، الحديث.
والقدرة على القراءة فرع عن الكتابة، وما جاء في صحيح البخاري وغيره عند كتابة صلح الحديبية ما لفظه فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه الحديث المشهور، وقال بهذا أبو ذر وعبد بن أحمد الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمّاني وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منّه، هذا وإن معرفته الكتابة بعد أمّيّته ونبوته صلّى اللّه عليه وسلم لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، لهذا قال بعضهم صار صلّى اللّه عليه وسلم يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها، وعدم معرفتها قبل بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ، وذلك بإقدار اللّه تعالى إياه بدون تعلم من أحد، وهذا معجزة له أيضا وأول ذلك قراءة ما هو مكتوب على باب الجنة المار ذكرها، وقوله هذا قد يتجه في القراءة، أما في الكتابة فلا، لما جاء في الحديث الصحيح: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب».
وعليه إن كل ما ورد من أنه كتب يكون معناه أمر بالكتابة، كما يقال كتب السلطان بكذا لفلان، ومن المعلوم أن للسلطان كتبة يكتبون له ذلك بأمره، لا هو نفسه، وقد جاء في الآيتين 94، 105 {وإنا له لكاتبون} {ولقد كتبنا في الزبور} من سورة الأنبياء المارة، فالمراد بالأولى واللّه أعلم حفظته الموكلون بتسطير أعمال الخلق، وفي الثانية أمره للقلم بكتابة ما كان وما يكون الذي من جملته ما كتب في الزبور كما بيناه أول سورة القلم.