فصل: مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا، وتقدم قوله تعالى: {من قبله} على قوله: {ولا تخطه} كالصريح في أنه عليه الصلاة لم يكتب مطلقا.
أما كون القيد المتوسط راجعا إلى ما بعده فغير مطّرد، إذ لا يجوز رجوع الضمير إلى ما بعده، وإذا كان لا يجوز لعدم اطراده فلم يسلم رجوعه إلى ما بعده.
وقد ظن بعض الأجلّة رجوعه لما قبله ولما بعد فقال يفهم من الآية أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة، إلا أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجيّة المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيّته، ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» ليس نصا في نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وكذا أكثر من بعث إليهم، وهو بين ظهرانيهم من العرب أمّيّون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد.
وتأويل كتب أمر بالكتابة خلاف الظاهر كما لا يخفى.
وجاء في شرح صحيح مسلم إلى النواوي رحمه اللّه نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية المذكورة أعلاه وليس يحسن يكتب فكتب كالنص في أنه صلّى اللّه عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه، إذ لا صارف عن الحقيقة، ومن المعلوم أنه لا يجوز ترك الحقيقة إلا إذا تعذرت.
هذا غاية ما أحتج به، وخلاصة القول أن كتابته صلّى اللّه عليه وسلم وقراءته على فرض صحتها فهي من معجزاته كما علمته مما ذكرناه قبلا، لا عن تعليم من أحد ولما لم يصح عنه أنه كتب كتابا ما في جملته مكاتباته الملوك وغيرهم ومعاهداته معهم، ولم يثبت شيء من ذلك البتة، فما وقع منه عند كتابته صحيفة صلح الحديبية يكون أيضا من قبيل المعجزة ليس إلا، فإن الحديث الوارد من أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يمت حتى تعلم الكتابة ضعيف، بل لا أصل له، وما زعمه القاضي وأبو الوليد الباجي ومن تابعهما من أنه تعلم الكتابة أو كان يعلم الكتابة أخذا مما رواه البخاري في حادثة الحديبة هو زعم فاسد، وكذلك من قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «رأيت مكتوبا على باب الجنة» إلخ، لأن ذلك كله من باب المعجزة له صلّى اللّه عليه وسلم كما سبق لك تفصيله، وكذلك يؤوّل قوله صلّى اللّه عليه وسلم إخبارا عن الدجال بأنه مكتوب بين عينيه كافر، تأمل، ثم تدبر، وإياك أن يلحقك شك أو يخامرك ريب أو تطرأ عليك مرية.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ} القرآن لا يرتاب فيه لوضوح أمره ولأنه {آياتٌ بَيِّناتٌ} لا تحتاج للروية ثابتات {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه، وبسبب رسوخه في الصدور لا يقدر أحد على تحريف أو تغيير أو تبديل شيء منه البتة، لأن اللّه تعالى تعهد بحفظه من ذاك، راجع الآية 42 من سورة السجدة والآية 9 من سورة الحجر المارتين، وقد جاء في وصف هذه الأمة المحمدية: صدورهم أناجيلهم والمراد بالذين أوتوا العلم، علماء أصحابه كما رواه الحسن، وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه أنهم الأئمة من آل محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
{وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا} هذه مع وضوحها {إِلَّا الظَّالِمُونَ} أنفسهم مكابرة وعنادا {وَقالُوا} أولئك الظالمون {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ} كما نزل على من قبله من الأنبياء كموسى وعيسى وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم من قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى وإظهار الناقة وعدم إحراق النار لآمنا به، وإذ لم يأت بشيء من ذلك ولا مما يشابه آيات من قبله فلا نؤمن به، لأنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتوا به.
{قُلْ} يا سيد الرسل {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} ما عندي منها شيء ولا أستطيع إظهار شيء إلا بإذن اللّه، فهو الذي يعطيها من يشاء من عباده وينزلها بحسب مقتضيات حكمته، لا دخل لي ولا للأنبياء قبلي بها البتة {وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ما يوحى إلي إليكم، وكذلك الأنبياء من قبلي، وليس من شأني ولا من شأنهم إنزال الآيات أو قسر الأمم على الإيمان إلا بمشيئته.
ونظير هذه الآية الآية 38 من سورة الأنعام، ومثلها في المعنى في يونس وهود المارات، وفي الآية 134 من سورة طه والآية 7 من سورة الرعد وغيرها كثير.
قال تعالى ردا عليهم {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ} يا محمد {الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ} على مر العصور والدهور تتلوه عليهم وأنت أمي معلوم عندهم، ويتلوه من منّ عليه بتعليمه منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة، فإن كانت لهم عقول فهذه آية كافية لمن يريد أن يهديه اللّه، ومن يضله اللّه لا تنفعه الآيات، وناهيك بالقرآن أنه آية دائمة باقية، وأن آيات الرسل كلّها انقرضت ولم يبق إلا خبرها {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي إنزال القرآن وبقاؤه الآخر الدوران لأكبر آية أتى بها الوسل، ولهذا يقول اللّه {لَرَحْمَةً} عظمى {وَذِكْرى} بالغة وعظة باهرة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} باللّه الذي أرسلك إليهم وبكتابه الذي أنزله عليك إليهم تغنيهم عن كل آية، أما المعنتون فلو أتيتهم بكل آية لا يتعظون ولا يؤمنون ولا يتذكرون، راجع الآية 115 من سورة البقرة تجد ما يتعلق بهذا إن شاء اللّه.
أخرج أبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها ما سمعوه من اليهود، فقال صلّى اللّه عليه وسلم كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية.
وهذا يتجه إذا كانت الحادثة بمكة، أما في المدينة فلا تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية، وإنما على سبيل تلاوة ما نزل قبل والاستشهاد به عند وقوع الحادثة المتأخرة فجائز، وهو طريق ضعيف مشى عليه بعض المفسرين، والحق هنا عدم جوازه، ولأن هذه الآية نزلت جوابا لقولهم {لولا أنزل عليه آية من ربه} فجعل ذلك أي الذي ذكر في الخبر المار ذكره سببا للنزول بغير محله، وهو خروج على الظاهر الواقع، وفي هذه الآية والحديث إشارة إلى منع تتبع الكتب القديمة لغير متبحر في القرآن العظيم، فقد أخرج ابن عساكر عن أبي ملكية قال: أهدى عبد اللّه بن عامر بن بركن إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد اللّه بن عمرو فردتها وقالت يتتبع الكتب القديمة وقد قال اللّه تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ} الآية، فقيل إنه عبد اللّه بن عامر فقبلتها.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه عليه والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يتلوّن وجهه، فقال والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النّبيين وأنتم حظي من الأمم.
أي ليس لكم أن تتخطوا ما جئتكم به إلى غيره، لأنه لا يخلو من حشو، والقرآن براء من كل عيب، لا يتطرق إليه ما ليس منه أبدا كما هو ثابت بكفالة اللّه تعالى القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} الآية 9 من الحجرة المارة.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه، فقال للرجل اكتب من هذا الكتاب؟ قال نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه، وجعل وجه رسول اللّه يتلون، فضرب رجل من الأنصار الكتاب، وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصار فلا يهلكفكم المتهوكون.- أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة وقيل المتحيرون، وقدمنا في الآية 43 من سورة القصص ما يتعلق بهذا وإن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين ولاسيما بصدر الإسلام فراجعه ففيه ما يكفيك ويثلج صدرك وتقر عينك {قُلْ} يا سيد الرسل لقومك وغيرهم {كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بأني رسوله والقرآن كلامه وانكم كاذبون مبطلون، واللّه عالم بأني بلغت وأنذرت ونصحت، وانكم صددتم وأنكرتم وكذبتم، وشهادة اللّه لي بإنزال الكتاب علي وإثبات المعجزة لي، وانه سيجازي كلا بفعله، لأنه {يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وجميع ما يقع فيهما وما بينهما، ومن جملتها شأني وشأنكم سرهما وجهرهما، وهذه تقرير لصدر الآية من كفاية شهادة اللّه تعالى على ذلك.
وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما قال كعب بن الأشرف وأصحابه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم من يشهد أنك رسول اللّه لا صحة له في سبب النزول، لأن الآية مكية بالاتفاق، وسباقها مع كفرة قريش لا ذكر لأهل الكتاب فيهما {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ} وهو غير ما جاءت به الرسل من عند اللّه {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} وما جاء عنه.
واعلم أن الإيمان بالباطل كفر بلا شك، وإنما ذكرت الجملة الأخيرة تأكيدا ولبيان قبح ما جاء في الجملة الأولى فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق؟ لبيان أن الباطل قبيح في ذاته {أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} المغبونون في صفقتهم، إذ اشتروا الكفر بالإيمان، وهذه الآية وردت مورد الإنصاف في المكالمة على حد قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية 35 من سورة سبأ المارة، وكقول حسان:
فخيركما لشركما الفداء

قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ} على طريق الاستهزاء والسخرية كقولهم {مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} الآية 30 من سورة سبأ أيضا، وهي مكررة كثيرا في القرآن، وذلك لعدم تصديقهم أن هناك بعثا وحسابا وجزاء، ولهذا يقولون {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً} الآية 32 من سورة الأنفال، وقد تكرر منهم هذا القول، كما تكررت هذه الآية معنى في كثير من سور القرآن.
قال تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} ضربناه لعذابهم غير قابل التقديم والتأخير، وعزّتي وجلالي يا سيد الرسل {لَجاءَهُمُ الْعَذابُ} الذي يريدون سرعة نزوله قبل أن يتشدقوا بما تفوهوا به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي يباغتهم ويفاجئهم به من حيث لا يتوقعونه، وهذا العذاب قيل هو في الدنيا فيما يقع عليهم من الأمر والجلاء والقتل أو الموت، وقيل هو عذاب الآخرة.
والآية صالحة للمعنيين، وكلا العذابين واقع بهم لا محالة، ومما يرجح كون المراد منه عذاب الآخرة قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ} إذ كرره بالظاهر لشدة هوله، كيف وقد قرنه بقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ} جميعهم لا يفلت منهم أحد والجملة حالية أي يستعجلونك بالعذاب والحال محل العذاب الذي هو جهنم لا عذاب فوقه محيط بهم {يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} فيجللهم من أطرافهم كلها، وهذا معنى إحاطة جهنم بهم ونقول نحن إله الكل مالك الدنيا والآخرة.
وقرىء بالياء أي يقول لهم الرب العظيم في ذلك اليوم {ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من القبح في دنياكم، ويضاهي هذه الآية الآية 16 من سورة الزمر المارة والآية 41 من الأعراف.

.مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار:

وهي تسعة أنواع:
قال تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ} فاتركوا الأرض التي أنتم فيها مضطهدون وفروا بدينكم إلى غيرها، فإن الأرض غير ضيقة عليكم، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أخلصوا عبادتكم لي في أرضي لا يمنعكم فيها أحد من إقامة شعائرها، نزلت هذه الآية في إباحة الهجرة صيانة للدين، ولا تختص بزمنه صلّى اللّه عليه وسلم احتجاجا بخبر لا هجرة بعد الفتح، بل هي عامة مطلقة، حكمها باق إلى الأبد، فبمقتضاها يجب على كل من كان في بلدة يتجاهر فيها بالمعاصي ولا يقدر على المنع ولا على إقامة دينه وإظهار شعائره كما ينبغي، أن يهاجر إلى غيرها من البلاد التي يتهيأ له فيها ذلك كله، لأنه إذا لم يكن آمنا على دينه لا يتمكن من إقامته فهو آثم، لذلك عليه أن يهاجر إلى بلد يكون فيه أسلم قلبا وأصحّ دينا وأكثر عبادة وأحسن رفاقة.
هذا وقد حث اللّه على الهجرة في الآية 99 من سورة النساء، بما يدل على أنها غير خاصة بزمن كما سنبينها هناك بصورة مفصلة إن شاء اللّه.
قال صلّى اللّه عليه وسلم: من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة.
وفي قوله تعالى: {واسِعَةٌ} عدة ووعد لعباده المهاجرين بسعة الرزق، أي لا تخافوا الضيق إذا تركتم دياركم من أجلي فإني أوسع عليكم وكان ذلك.
وأعلم أن البقاع تتفاوت تفاوتا عظيما، وقال العارفون لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها اللّه تعالى.
قال سهل إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين.
راجع الآية 9 من سورة الروم المارة.
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} ذكر اللّه تعالى هذه الآية بعد الآية المشيرة إلى الهجرة ليستعدوا له قبل مفاجاته، لأنهم لا يدرون متى يفاجئهم، لذلك خوفهم بالموت فيها ليهون عليهم أمر الهجرة، إذ لا أصعب من ترك الوطن على النفس إلا الموت كي لا يبقوا بدار الشرك فيموتوا فيها، وإذا سهل على الإنسان الموت سهل عليه ترك الوطن وحث نفسه على الهجرة منه لإخلاص العبادة لربه والمحافظة على دينه اللذين يذهب بهما إليه دون وطنه وأهله وعشيرته، قال عليه الصلاة والسلام: يتبع الميت ثلاث، أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله.
{ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ} بعد الموت حتما، وإذا كان كذلك فاجنحوا في دنياكم إلى ما يصلح دينكم واتركوا غيره.
ويضاهي صدر هذه الآية الآية 35 من سورة الأنبياء المارة والآية 185 من آل عمران، وهي مكررة في القرآن.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} في هذه الدنيا وتركوا أوطانهم وأهلهم وعشيرتهم رغبة فيما عند اللّه من الثواب {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} علالي عالية نسكنهم فيها ونوطنهم بها، ولا حول لهم عنها، وهذه لا تشبه غرف الدنيا ولا تقاس بها فضلا عن أنها فانية وتلك باقية، وأنها من صنع البشر وهي من صنع اللّه وإبداعه الذي أتقن كل شيء، فلا يقدر أن يصفها واصف، ومن بعض محاسنها أنها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} ويكون أهلها {خالِدِينَ فِيها} أبدا والدنيا مهما طال أمدها فمصيرها الزوال ف {نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} في الدنيا تلك الغرف الباقية في الجنة، وهذه أيضا مكررة في الآية 20 من سورة الزمر المارة وفي غيرها، قال ابن عباس: هي من الدرّ والزبرجد والياقوت، أما المستحقون لهذه العرف وتلك الكرامة فهم {الَّذِينَ صَبَرُوا} على مشاق الدّين ومرارة الهجرة وفراق الوطن والبعد عن الأهل والأقارب والأحباب والالتجاء إلى أناس لا يعرفونهم، وتحمل ما يلحقهم من الذل فرارا بدينهم وصيانة له وحفظا على شعائره، كما صبروا على أذى المشركين وإهانتهم من أجله {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بكل أمورهم لا على غيره، ولما أمر صلّى اللّه عليه وسلم بالهجرة وحث عليها خلص عباده ليقتدي بهم الآخرون خاف بعضهم الفقر وضيعة الحسب في المدينة، لأنهم لا يعرفون أحدا ولا يعرفهم أهلها، وليس لهم مال ولا عقار ولا بساتين، ولا يقدرون على أخذ ما عندهم في مكة إلى المدينة لبعد الشقة والمشقة، وخوفا من الكافرين أن يستحلوا أموالهم وأنعامهم لأن خروجهم سيكون خلسة عنهم، لئلا يطلعوا عليهم فيمنعوهم ويوقعوا بهم الأذى ويهينوهم أنزل اللّه قوله عز قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لضعفها ووهنها، أو لا تقدر على ادخاره ليوم حاجتها، أو لتوكلها على خالقها، فتصبح وتمسي ولا شيء عندها {اللَّهُ يَرْزُقُها} من فضله، ويسوقها إلى ما قدر لها، أو يسوق الرزق إليها بأن يسخّر من يقدمه لها دون طلب أو كلفة.