فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهناك من يغيب عنه المنطق العقلى في التعريف بالله، ويظن الجهاد حماسا أجوف. وتعليما لهؤلاء سد القرآن بعض ما تبعه إبراهيم في منهجه {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}. وهناك من طغت حيوانيتهم فأسرفوا في الشهوات الجنسية إسرافا منكورا، وشذوا عن سنة الفطرة في الزواج الشريف، فقال لوط لهم: {إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر}. والغريب أن مدنية الغرب سارت في الطريق نفسه، حذو النعل بالنعل، وهى الآن تتعرض لطاعون الإيدز والسبب أنهم رفضوا الإطار الذي صنعه الإسلام حول الشهوة الجنسية، وكيف جعل الزواج عبادة، وكيف صنع سدودا أمام المثيرات والمغريات بالحرام. ومضت السورة تحصى أمما تمردت على الله وكرهت منهاجه، فماذا وقع لها؟ {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا}. هل القوى المرهوبة وقفت أمام العقوبات الإلهية؟ كلا، كما تعصف الريح ببيت العنكبوت عصفت بكيانهم فصار هباء. {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. فليتحمل المجاهدون الأعباء، وليثقوا بالمستقبل إما في هذه الدنيا، وإلا ففى يوم الجزاء. أهل الكتاب صنفان: صنف لا يضن علينا بحق الحياة والعبادة والدعوة، بل يدعنا وشأننا، وهؤلاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولا تخفر لهم ذمة، ولا ينقض لهم عهد!. وصنف آخر يضيق بنا وبكتابنا ونبينا، ويسعى لنقض بنائنا، وتنكيس لوائنا، ومن حقنا أن نتحفظ من هؤلاء ونحتاط! ولا يكلفنا عاقل أن نأمن لهم!. وسورة العنكبوت تتضمن إرشادا عاما في معاملة هؤلاء وأولئك {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون}. ووددت لو أن لجنة من المحايدين العقلاء نظرت في العلاقة بين الشرق والغرب على امتداد التاريخ الماضى والمعاصر، وكشفت عن مثيرى الحروب الدامية بينهما، خصوصا المدة من زحف الرومان على العالم، ووقوع غرب آسيا وشمال إفريقية في أيديهم. أكان الإسلام معتديا حين حرر هذه الأقطار من براثنهم؟ ثم عاود أبناؤهم وأشياعهم الهجوم في الحروب الصليبية الأولى، فردوا على أعقابهم بعد مئات السنين من الكر والفر. ثم عادوا في العصر الحديث بدءأ من هجوم نابليون على مصر، وموسولينى على ليبيا والحبشة، وتأليفه وزارة للمستعمرات الإسلامية! ثم اجتاح الفرنسيون دول المغرب كلها، واجتاح الإنكليز وادى النيل. وسقطت القارة الإسلامية في يد أهل الكتاب، فهل نحن المعتدون في هذه الحروب الآثمة؟. واليوم تسعى جماهير المسلمين إلى العيش بدينها فيحرمون منه، وتكال لهم التهم، فأين الإنصاف في هذا المسلك؟. والمسلمون يؤمنون بكل سطر في كتابهم، ويودون العمل به، فلماذا يمنعونهم منه؟ ويتطاولون على صاحبه؟ ويتهمونه بالكذب؟ {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون}. إن الفتنة بمظالم أهل الكتاب شديدة. وقد شنوا في هذه الأيام هجوما عاما ليردوا المسلمين عن دينهم ويقفصوا العمل به في أضيق نطاق حتى يتم القضاء عليه شكلا وموضوعا!!. وقد رددت سورة العنكبوت شبهة طالما أثارها الوثنيون عندما طالبوا محمد بخوارق العادات معجزة له، فقيل لهم: المعجزة المنشودة في هذا الكتاب الذي يسمعون آياته! {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}. إن القرآن معجزة باقية على امتداد العصور، وأثره النفسى والاجتماعى عميق، وقد حفظ أمتنا في أشد الأزمات التي نزلت بنا، ولم أر كتابا مثله في إنشاء علاقة بين المرء وربه تقوم على التقوى واليقين. أما تعريفه بالله من خلال النظر في الكون. فاسأل علماء المادة هل وجدوا في هذا التعريف إلا ما بهر وسر؟ لماذا؟ لأنه {أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما}.
ولقد هززت رأسى عجبا وأنا أسمع كاهن الفاتيكان الأعظم يناشد الناس أن يستعملوا الأغشية الواقية من الإيدز عندما يباشرون العلاقات المحرمة!. أهذه غاية الجهد؟ أهذا عمل الدين؟. إن القرآن يصنع أجيالا تصحب ربها بمشاعر الرغبة والرهبة، وتجعل من هذه الصحبة أسلوب حياة ومنهج سلوك شريف!!. وذلك بعض إعجاز الكتاب الكريم. وقد تطول المعارك بين الحق والباطل، وتفدح مغارمها ويتساءل العجلون متى النصر؟ ويقول الكافرون: أين ما تهدوننا به؟ {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون}. وقد ترادفت على المسلمين الفتن وقيل للتاجر الصغير في مكة: أغلق دكانك وهاجر لتقيم دولة الإسلام. ويتساءل التاجر الفقير: كيف أعيش هناك؟ فيجاب بهذه الآية: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} وتتم الهجرة ويتعاون المهاجرون والأنصار ويتحقق النصر بعد ابتلاء صعب!. إن الإيمان الذي صنعه القرآن صنع العجائب ولا يزال يصنع. إذا كان هناك في عصرنا الذي ملكته الحضارة الحديثة وغزته بفلسفتها المادية من يعبد الحياة، ويجحد ما بعدها فإن هناك مسلمين يؤمنون بالدنيا والآخرة، ويعلمون أن الوجود هنا موقوت وقاصر، أما هناك فبصر أحد، وسمع أقوى، وشهود لا يغلبه حجاب! {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}. وتختم سورة الابتلاء بهذا التساؤل {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة العنكبوت:
أقول ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه: {علا في الأَرضِ وجعلَ أَهلِها شيعًا يستضعف طائفة مِنهُم يذبح أَبناءهم ويستحي نساءهم} افتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان، بعذاب دون ما عذب به قوم فرعون بني إسرائيل، تسلية لهم، بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر، ولذلك قال هنا: {ولَقد فتنّا الذينَ مِن قبلِهم} وهذه أيضًا من حكم تأخير القصص على {طس} وأيضًا فلما كان في خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله: {يا عبادي إِن أَرضي واسعة} ناسب تتاليهما. اهـ.

.تفسير الآيات [1- 4]:

قوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده {الرحمن} الذي شمل جميع العباد بنعمة الأمر والنهي {الرحيم} الذي ألزم أهل العرفان ذروة الإحسان.
لما ختم السورة الماضية بالحث على العمل للدار الآخرة، وأن كل أحد من محسن مسيء مجزى بعمله، وبالإخبار بأنه سبحانه عالم بالسر والعلن، بالأمر بالاجتهاد في الدعاء إليه وقصر الهمم عليه وإن أدى ذلك إلى الملال، وذهاب النفس والأموال، معللًا بأن له الحكم سبحانه لأنه الباقي بلا زوال، وكل ما عداه فإلى تلاش واضمحلال، وأنه لا يفوته شيء في حال ولا مآل، قال أول هذه:
{الم} إشارة بالألف الدال على القائم الأعلى المحيط ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى أنه سبحانه أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام ليدعو الناس بالقرآن الذي فرض عليه إلى الله، لتعرف بالدعوة سرائرهم ويتميز بالتكليف محقهم ومماكرهم {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31].
ولما عبر بهذه الإشارة لأهل الفطنة والبصائر، قال منكرًا على من ظن أن مدعي الإيمان لا يكلف البيان، ومفصلًا لما ختمت به تلك من جميع هذه المعاني، بانيًا على ما أشارت إليه الأحرف لأولي العرفان: {أحسب الناس} أي كافة، فإن كلًا منهم يدعي أنه مؤمن لمعنى أنه يقول: إنه على الحق، ولعله عبر بالحسبان والنوس إشارة إلى أن فاعل ذلك مضطرب العقل منحرف المزاج.
ولما كان الحسبان، لا يصح تعليقه بالمفردات، وإنما يعلق بمضمون الجملة، وكان المراد إنكار حسبان مطلق الترك، كانت {أن} مصدرية عند جميع القراء، فعبر عن مضمون نحو: تركهم غير مفتونين لقولهم آمنًا، بقوله: {أن يتركوا} أي في وقت ما بوجه من الوجوه، ولو رفع الفعل لأفهم أن المنكر حسبان الترك المؤكد، فلا يفيد إنكار ما عرى عنه، وقد مضى في المائدة ما ينفع هنا {أن} أي في أن {يقولوا} ولو كان ذلك على وجه التجديد والاستمرار: {آمنا وهم} أي والحال أنهم {لا يفتنون} أي يقع فتنتهم ممن له الأمر كله وله الكبرياء في السماوات والأرض، مرة بعد أخرى بأن يختبر صحة قولهم أولًا بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأحكام، وثانيًا بالصبر على البأساء والضراء عند الابتلاء بالمدعوين إلىلله في التحمل لأذاهم والتجرع لبلاياهم وغير ذلك من الأفعال، التي يعرف بها مرتبة الأقوال، في الصحة والاختلال.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بني إسرائيل بفرعون وابتلائهم بذبح أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم وثمرة صبرهم، وانجرّ مع ذلك مما هو منه لكن انفصل عن عمومه بالقضية امتحان أم موسى بفراقه حال الطفولية وابتداء الرضاع وصبرها على أليم ذلك المذاق حتى رده تعالى إليها أجمل رد وأحسنه، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه الصلاة والسلام بأمر القبطي وخروجه خائفًا يترقب وحن عاقبته وعظيم رحمته، وكل هذا ابتلاء أعقب خيرًا، وختم برحمة ثم بضرب آخر من الابتلاء أعقب محنة وأورث شرًا وسوء فتنة، وهو ابتلاء قارون بماله وافتنانه به، فخسفنا به وبداره الأرض، فحصل بهذا أن الابتلاء في غالب الأمر سنة، وجرت منه سبحانه في عبادة ليميز الخبيث من الطيب، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال العباد بما يبتليهم به إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه إذ هو موجده وخالقه خيرًا كان أو شرًا، فكيف يغيب عنه أو يفتقر تعالى إلى بيانه بتعرف أحوال العباد أو يتوقف علمه على سبب.
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ولكن هي سنة في عباده ليظهر لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء ما لم يكن ليظهر قبل ذلك حتى يشهدوا على أنفسهم، وتقوم الحجة عليهم باعترافهم، ولا افتقار به تعالى إلى شيء من ذلك، فلما تضمنت سورة القصص هذا الابتلاء في الخير والشر، وبه وقه افتتاحها واختتامها، هذا وقد أنجز بحكم الإشارة أولًا خروج نبينا صلى الله عليه وسلم من بلده ومنشأه ليأخذه عليه الصلاة ولاسلام بأوفر حظ مما ابتلي به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم الأجر المناسب لعليّ درجاتهم عليهم السلام، ثم بشارته صلى الله عليه وسلم آخرًا بالعودة والظفر {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} [القصص: 85] فأعقب سبحانه هذا بقوله معلمًا للعباد ومنبهًا أنها سنته فيهم فقال: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} أي أحسبوا أن يقع الاكتفاء بمجرد استجابتهم، وظاهر إنابتهم، ولما يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات، وضروب الاختبارات {ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} [البقرة: 155] فإذا وقع الابتلاء فمن فريق يتلقون ذلك تلقي العليم أن ذلك من عند الله ابتلاء واختبارًا، فيكون تسخيرًا لهم وتخليصًا، ومن فريق يقابلون ذلك بمرضاة الشيطان، والمسارعة إلى الكفر والخذلان {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن يدعي الإيمان، فإذا أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه، فكان عنده مقاومًا بعذاب الله الصارف لمن ضربه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة، وأشد في المحنة، ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وطول مكايدتهم من قومهم، فذكر نوحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا عليهم الصلاة والسلام، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء، أما نوح عليه السلام فلبث في قومه- كما أخبر الله تعالى- ألف سنة إلا خمسين عامًا وما آمن معه إلا قليل، وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرمى بالمنجنيق في النار فكانت عليه بردًا وسلامًا، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين عليهم الصلاة والسلام وزبضروب من الابتلاءات حصلوا على ثوابها، وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى نصابها، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال: {فكلًا أخذنا بذنبه} ثم وصى نبيه صلى الله عليه وسلم وأوضح حجته، وتتابع اتساق الكلام إلى آخر السورة- انتهى.
ولما كان التآسي من سنن الآدميين، توقع المخاطب بهذا الأمر الخبر عن حالهم في ذلك، فقال مؤكدًا لمن يظن أن الابتلاء لا يكون، لأن الله غني عنه فلا فائدة فيه جاهلًا بما فيه من الحكمة بإقامة الحجة على مقتضى عوائد الخلق: {ولقد} أي أحسبوا والحال أنا قد {فتنا} أي عاملنا بما لنا من العظمة معاملة المختبر {الذين}.
ولما كان التآسي بالقريب في الزمان أعظم، أثبت الجار في قوله: {من قبلهم} أي من قبل هؤلاء الذين أرسلناك إليهم من أتباع الأنبياء حتى كان الرجل منهم يمشط لحمه بأمشاط الحديد ما يرده ذلك عن دينه، ومن رءوسهم صاحب أكثر السورة الماضية موسى عليه الصلاة والسلام، ففي قصته حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما يقال له حديث الفتون وهو في مسند أبي يعلى، ومن آخر ما ابتلى به أمر قارون وأتباعه.
ولما كان الامتحان سببًا لكشف مخبآت الإنسان بل الحيوان، فيكرم عنده أو يهان، وأرشد السياق إلى أن المعنى: فلنفتننهم، نسق به قوله: {فليعلمن الله} أي الذي له الكمال كله، بفتنة خلقه، علمًا شهوديًا كما كان يعلم ذلك علمًا غيبيًا، ويظهره لعباده ولو بولغ في ستره، وعبر بالاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال التفاتًا عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تنبيهًا للناقصين- وهم أكثر الناس- على أنه منزه عن كل شائبة نقص، وأكد إشارة إلى أن أكثر الناس يظن الثبات عند الابتلاء وأنه إذا أخفى عمله لا يطلع عليه أحد {الذين صدقوا} في دعواهم الإيمان ولو كانوا في أدنى مراتب الصدق، وليعلمن الصادقين، وهم الصابرون الدين يقولون عند البلاء {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} فيكون أحدهم عند الرخاء برًا شكورًا، وعند البلاء حرًا صبورًا، وليعلمن الذين كذبوا في دعواهم {وليعلمن الكاذبين} أي الراسخين في الكذب الذين يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فظنوا، فيكون لكل من الجزاء على حسب ما كشف منه البلاء، والتعبير بالمضارع لتحقق الاختبار، على تجدد الأعصار، لجمعي الأخيار والأشرار، فمن لم يجاهد نفسه عند الفتنة فيطيع في السراء والضراء كان من الكافرين فكان في جهنم {أليس في جهنم مثوى للكافرين} ومن جاهد كان من المحسنين، والآية من الاحتباك: دل بالذين صدقوا على الذين كذبوا، وبالكاذبين على الصادقين، ذكر الفعل أولا دليلًا على تقدير ضده ثانيًا، والاسم ثانيًا دليلًا على حذف ضده أولًا.
ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة في الدنيا، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة، فكان حاصل ما مضى من الاستفهام: أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أنم ذلك لا يكون في الأخرى، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عبادة مجانًا، فيكون خلقنا لهم عبثاُ لا حكمة فيه، بل الحكمة في تركه، وهذا الثاني هو معنى قوله منكرًا {أم حسب} أو يكون المعنى أنه لما انكر على الناس عمومًا ظنهم الإهمال، علم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم، فكان الإنكار عليهم أشد، فعادل الهمزة بأم في السياق الإنكار كما عادلها بها في قوله: {أتخذتم عند الله عهدًا} [البقرة: 80] الآية، فقال: {أم حسب} أي ظن ظنًا يمشي له ويستمر عليه، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه {الذين يعملون السيئات} أي التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل- منها بالنهي عنها، ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله: {أن يسبقونا} أي يفوتونا فوت السابق لغيره فيعجزونا فلا نقدر عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم من خير وشر في أوقاته التي ضربناها له، وفي الدار الآخرة بأن نحييهم بعد أن نميتهم، ثم نحشرهم إلى محل الجزاء صغرة داخرين، فنجازيهم على ما عملوا ونقتص لمن أساؤوا إليه منهم، ويظهر تحلينا بصفة العدل فيهم.
ولما أنكر هذا، عجب ممن يحوك ذلك في صدره تعظيمًا لإنكار فقال: {ساء ما يحكمون} أي ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلًا لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضًا ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم. اهـ.