فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} تقدّم القول في أوائل السور.
وقال ابن عباس: المعنى أنا الله أعلم.
وقيل: هو اسم للسورة.
وقيل اسم للقرآن.
{أَحَسِبَ} استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن.
{أَنْ يُتْرَكُوا} في موضع نصب ب {حَسِبَ} وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه.
و{أن} الثانية من {أَنْ يَقُولُوا} في موضع نصب على إحدى جهتين، بمعنى لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا.
والجهة الأخرى أن يكون على التكرير؛ والتقدير {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} أَحَسِبُوا {أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قومًا من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام؛ كسلمة بن هشام وعيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمّار بن ياسر وياسر أبوه وسُميّة أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم.
فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكِر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين؛ قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلِّية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارًا للمؤمنين وفتنة.
قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر.
وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك.
وإذا اعتبر أيضًا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن، ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدوّ في كل ثغر.
قلت: ما أحسن ما قاله، ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه.
وقال مقاتل: نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بَدْر؛ رماه عامر بن الحضرميّ بسهم فقتله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: «سيد الشهداء مِهْجَع وهو أوّل من يُدْعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» فجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت: {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا}.
وقال الشعبي: نزل مفتتح هذه السورة في أناس كانوا بمكة من المسلمين، فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية أنه لا يقبل منكم إقرار الإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا فأتبعهم المشركون فآذوهم.
فنزلت فيهم هذه الآية: {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} فكتبوا إليهم: نزلت فيكم آية كذا؛ فقالوا: نخرج وإن اتبعنا أحد قاتلناه؛ فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110].
{وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} يمتحنون؛ أي أَظنَّ الذين جزعوا من أذى المشركين أن يُقنَع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بما يتبيّن به حقيقة إيمانهم.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في النار، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه.
وروى البخاريّ عن خَبّاب بن الأَرَتّ: قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا. فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمِنْشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويُمَشط بأمشاط الحديد لحمُه وعظمُه فما يصرفه ذلك عن دينه واللَّهِ ليتِمنّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللَّهَ والذئبَ على غنمه ولكنكم تستعجلون» وخرّج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدريّ قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرّه بين يدي فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله ما أشدّها عليك. قال: «إنا كذلك يُضعَّف لنا البلاء ويُضعّف لنا الأجر قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء وقلت: ثم من. قال: ثم الصالحون أَنْ كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يَحُوبها وأَنْ كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرحُ أحدكم بالرخاء».
وروى سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صُلْبًا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقّة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة».
وروى عبد الرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير، فركب يومًا فأخذه السبع فأكله، فقال عيسى: يا رب وزيري في دينك، وعوني على بني إسرائيل، وخليفتي فيهم، سلطت عليه كلبًا فأكله.
قال: «نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة».
وقال وهب: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذا سلك بك سبيل البلاء فقرّ عينًا، فإنه سلِك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك، فقد خولف بك عن سبيلهم.
قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} أي فليُرِيَنَّ الله الذين صدقوا في إيمانهم. وقد مضى هذا المعنى في البقرة وغيرها.
قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه، وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما، ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه.
وإنما يعلم صدق الصادق واقعًا كائنًا وقوعه، وقد علم أنه سيقع.
وقال النحاس: فيه قولان: أحدهما: أن يكون {صَدَقُوا} مشتقًا من الصِّدْق و{الْكَاذِبِينَ} مشتقًا من الكَذِب الذي هو ضد الصِّدق، ويكون المعنى؛ فليبينن الله الذي صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك.
والقول الآخر: أن يكون صدَقوا مشتقًا من الصَّدق وهو الصُّلْب، والكاذبين مشتقًا من كَذَّب إذا انهزم، فيكون المعنى؛ فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب، والذين انهزموا؛ كما قال الشاعر:
لَيثٌ بِعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا ** ما اللَّيثُ كَذَّبَ عن أقرانه صَدَقَا

فجعل {لَيَعْلَمَنَّ} في موضع فليبينن مجازًا.
وقراءة الجماعة: {فَلَيَعْلَمَنَّ} بفتح الياء واللام.
وقرأ علي ابن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قاله النحاس.
ويحتمل ثلاثة معان: الأول: أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا؛ بمعنى يوقفهم على ما كان منهم.
الثاني: أن يكون المفعول الأوّل محذوفًا تقديره؛ فليعلمنّ الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين، أي يفضحهم ويشهرهم؛ هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة.
الثالث: أن يكون ذلك من العلامة؛ أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها.
فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها».
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات} أي الشرك {أَن يَسْبِقُونَا} أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون.
قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل.
{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شيء.
و{ما} في موضع نصب بمعنى ساء شيئًا أو حكمًا يحكمون.
ويجوز أن تكون {ما} في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم.
وهذا قول الزجاج.
وقدرها ابن كيسان تقديرين آخرين خلاف ذينك: أحدهما؛ أن يكون موضع {مَا يَحْكُمُونَ} بمنزلة شيء واحد، كما تقول: أعجبني ما صنعت؛ أي صنيعك ف {ما} والفعل مصدر في موضع رفع، التقدير؛ ساء حكمهم.
والتقدير الآخر أن تكون {ما} لا موضع لها من الإعراب، وقد قامت مقام الاسم لساء، وكذلك نعم وبئس.
قال أبو الحسن بن كيسان: وأنا أختار أن أجعل ل {ما} موضعًا في كل ما أقدر عليه؛ نحو قوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159] وكذا {فَبِمَا نَقْضِهِم} [المائدة: 13] وكذا {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} [القصص: 28] {ما} في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها، وكذا؛ {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] {ما} في موضع نصب و{بَعُوضَةً} تابع لها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}.
هذه السورة مكية، قاله جابر وعكرمة والحسن.
وقال ابن عباس، وقتادة: مدنية.
وقال يحيى بن سلام: مكية إلا من أولها إلى {وليعلمن المنافقين} ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة، قاله السدي؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله، قاله ابن عمر؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم، قاله مجاهد، وهو قريب مما قبله؛ أو في مهجع مولى عمر، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة»؛ أو في عياش أخي أبي جهل، غدر فارتد.
و{الناس} فسر بمن نزلت فيه الآية.
وقال الحسن: الناس هنا المنافقون، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا.
وحسب يطلب مفعولين.
فقال الحوفي، وابن عطية، وأبو البقاء: سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلًا من أن يتركوا.
وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا.
قال ابن عطية، وأبو البقاء: وإذا قدرت الباء كان حالًا.
قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء كما تقول: تركت زيدًا بحاله، وهي في اللام بمعنى من أجل، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان؟ قلت: هو في قوله: {أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، فالترك أول مفعولي حسب، ولقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة للترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
فتركته جزر السباع ينشنه.
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: تركتهم غير مفتونين، لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت: {أن يقولوا} هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قوله: خرجت مخافة الشر وضربته تأديبًا، تعليلين.
وتقول أيضًا: حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرًا.
انتهى، وهو كلام فيه اضطراب.
ذكر أولًا أن تقديره غير مفتونين تتمة، يعني أنه حال، لأنه سبك ذلك من قوله: {وهم لا يفتنون} وهذه جملة حالية.
ثم ذكر {أن يتركوا} هنا من الترك الذي هو من التصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم: {وهم لا يفتنون} وهذا كلام لا يصح.
وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح، وأن يكون جزر السباع مفعولًا ثانيًا لترك بمعنى صير، بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام، فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم، كان غير مفتونين حالًا، إذ لا ينعقد من تركهم، بمعنى تصييرهم، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم، بمعنى تصييرهم، إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا معفول ثان.
وأما قوله: فإن قلت {أن يقولوا} إلى آخره، فيحتاج إلى فضلة فهم، وذلك أن قوله: {أن يقولوا} هو علة تركهم فليس كذلك، لأنه لو كان علة له لكان متعلقًا، كما يتعلق بالفعل، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر، أو كائن، والخبر غير المبتدأ.
ولو كان لقولهم علة للترك، لكان من تمامه، فكان يحتاج إلى خبر.
وأما قوله: كما تقول خروجه لمخافة الشر، فلمخافة ليس علة للخروج، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر، أو كائن.
{وهم لا يفتنون} قال الشعبي: الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها.
وقال الكلبي: هو مثال، {أو يلبسكم شيعًا} وقال مجاهد: يتبتلون في أنفسهم وأموالهم.
و{الذين من قبلهم} المؤمنون أتباع الأنبياء، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين، وتمشط بأمشاط الحديد، ولا يرجع عن دينه.
{فليعلمن الله} بالامتحان، {الذين صدقوا} في إيمانهم، {وليعلمن الكاذبين} فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما، ويستحيل حدوث العلم لله تعالى.
فالمعنى: وليتعلقن علمه به موجودًا به كما كان متعلقًا به حين كان معدومًا.
والمعنى: وليميزن الصادق منهم من الكاذب، أو عبر بالعلم عن الجزاء، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب.
ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم، والكاذبين ضد ذلك.
وقرأ علي، وجعفر بن محمد: فليعلمن، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد، والثاني محذوف، أي منازلهم في الآخرة من ثواب وعقاب؛ أو الأول محذوف، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا، أي يشهرهم هؤلاء في الخير، وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم، كقوله: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها».
وقرأ الزهري: الأولى كقراءة الجماعة، والثانية كقراءة علي.
{أم حسب} قال ابن عطية: أم معادلة للألف في قوله: {أحسب} وكأنه عز وجل قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه. انتهى.
وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب، كما ذكر، لأنها إذ ذاك تكون متصلة، ولها شرطان: أحدهما: أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام، وهذا الشرط هنا موجود.
والثاني: أن يكون بعدها مفرد، أو ما هو في تقدير المفرد.
مثال المفرد: أزيد قائم أم عمرو؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد: أقام زيد أم قعد؟ وجوابها: تعيين أحد الشيئين، إن كان التعادل بين شيئين؛ أو الأشياء، إن كان بين أكثر من شيئين.
وهنا بعد أم جملة، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين، بل أم هنا منقطعة، بمعنى بل التي للإضراب، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية، لا بمعنى الإبطال.
وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار، فلا يقتضي جوابًا، لأنه في معنى: كيف وقع حسبان لك؟
و{الذين يعملون السيئات} قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاصي بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، والعاصي بن وائل، وأنظارهم من صناديد قريش. انتهى.
والآية، وإن نزلت على سبب، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم.
وقال مجاهد: {أن يسبقونا} أي يعجزونا، فلا نقدر على الانتقام، وقيل: أن يعجلونا محتوم القضاء، وقيل: أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم.
وقال الزمخشري: {أن يسبقونا} أن يفوتونا، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدثوا به أنفسهم، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه؛ ونظيره: {وما أنتم بمعجزين في الأرض} {ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون} فإن قلت: أين مفعولًا حسب؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين، كقولهم: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر، وأم منقطعة.
ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه. انتهى.
أمّا قوله: وهو لم يطمعوا في الفوت، إلى آخر قوله: ويطمع فيه، فليس كما ذكر، بل هم معتقدون أن لا بعث ولا جزاء، ولاسيما السرية التي نص عليها ابن عباس، وما ذكره، كما الزمخشري، هو على اعتقاد من يعلم أن الله يجازيه، ولكن طمع في عفو الله.
وأما قوله: اشتمال صلة أن، إلى آخره، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله: {أن يتركوا} فيجعل ذلك سد مسد المفعولين، ولم يقدر ما لا يصح تقديره، وأمّا قوله: ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد، والتضمين ليس بقياس، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه، وهذا لا حاجة إليه.
{ساء ما يحكمون} قال الزمخشري، وابن عطية ما معناه: أن {ما} موصولة و{يحكمون} صلتها، أو تمييز بمعنى شيء، ويحكمون صفة، والمخصوص بالذم محذوف، فالتقدير: أي حكمهم.
انتهى.
وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو.
وقال ابن كيسان: ما مصدرية، فتقديره: بئس حكمهم.
وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفًا، أي ساء حكمًا حكمهم.
وساء هنا بمعنى: بئس، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بها ما، والفعل في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} مشبعًا في البقرة.
وجاء بالمضارع، وهو {يحكمون} قيل: إشعارًا بأن حكمهم مذموم حالًا واستقبالًا، وقيل: لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعًا. اهـ.