فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونجد في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} تصحيحا لما يقع في بعض النفوس المؤمنة من انزعاج أو استثقال لهذا العبء الذي حملوه من الإيمان باللّه. كما نجد في الآية والآيات التي بعدها إجابات قاطعة على تلك التساؤلات التي كانت تتردد في الخواطر: لم يكون الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف؟ ولم يحملنا إيماننا باللّه على هذا المركب الوعر؟ ألسنا على الهدى، وعلى الصراط المستقيم؟ وهل هذا الطريق هكذا وعر المسالك، مزدحم العقبات؟
ونعم. إن الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف، وإن طريقه وعر المسالك جمّ العقبات!! إنه الطريق إلى الجنة، وإن طريق الجنة محفوف بالمكاره! وإن هذا البلاء الذي يلقاه المؤمن على طريق إيمانه، هو ابتلاء له، وتمحيص لما عنده من صبر ومصابرة. وهل يصفّى الذهب من الغثاء الذي علق به، إلا إذا صهر بالنار؟ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} [31: محمد]. {ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [179: آل عمران].
وهل انكشف وجه النفاق، وعرف المنافقون إلا في بوتقة الابتلاء، وفي مقام التضحية والبذل؟
إن الناس جميعا على سواء في حال الأمن والعافية. فإذا كانت المحن والشدائد، فهم أنماط وأشكال، وهم معادن مختلفة، بين غث وثمين! والاستفهام في الآية الكريمة، للإنكار، والنفي. أي ليس الأمر على ما يظن الناس وما يقدرون، من أنهم إذا قالوا آمنا كانوا مؤمنين. كلّا، إن ذلك لا يكون حتى يفتنوا، وحتى يبتلوا. وعندئذ ينكشف ما عندهم من إيمان.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} هكذا حكم اللّه في عباده. فكما امتحن اللّه المؤمنين في الأمم السابقة، يمتحن سبحانه الذين أسلموا، بما يفتنهم، في دينهم مما يلقاهم من شدائد ومحن.
فمن كان صادق الإيمان، سليم العقيدة، خالص النية، أمسك إيمانه في قلبه، وثبت عليه، ومن كان على غير تلك الصفة انخلع عن دينه، وألقى به لأول مسة تمسه من بلاء، وباعه بأبخس ثمن!.
وفي قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} بهذا الأمر المؤكد إعلان للمؤمنين بأنهم في وجه ابتلاء، وفي مواجهة فتن، لابد لهم منها. إن لم تكن واقعة بهم فعلا، فإنها ستقع حتما. هكذا يجب أن يتقرر في نفوسهم من أول الطريق. فمن شاء أن يكون في المؤمنين، فليوطن نفسه على هذا، وليستعد لحمل أفدح الضربات. وإلا فليأخذ طريقا غير هذا الطريق، وأمامه أكثر من طريق فسيح.!.
والمؤمنون الأولون الذين دخلوا في الإسلام، ورسخت أقدامهم فيه، هم- كما شهد التاريخ- أصفى الناس جوهرا، وأكرمهم معدنا. فقد كانوا خلاصة مجتمعهم، وثاقة عزم، وقوة يقين. فاحتملوا من الشدائد والمحن ما تتصدع به الجبال الراسيات. {فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [146: آل عمران] ومن أجل هذا، فقد شهد القرآن الكريم لهذه الصفوة المتخيرة من عباد اللّه أكرم شهادة، وجعل ميزان الواحد منهم يعدل عشرة من غير المؤمنين، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [65: الأنفال].
وأنت ترى أن الصفة التي فرق بها القرآن بين هؤلاء المؤمنين، والمشركين، هي الفقه وهو ليس ذلك العلم النظري، وإنما هو الحق الذي يملأ القلوب نورا، فيكشف لصاحبه من آيات اللّه، ودلائل قدرته، وعلمه، وحكمته، ما يصغر به كل شيء، إزاء عظمة الخالق وجلاله.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ}.
هو لفتة تلفت المؤمنين، الذين يعانون ما يعانون من أعباء الإيمان وتبعاته- إلى هؤلاء المشركين، الذين خلت دنياهم من هذا البلاء، وفرغوا لما هم فيه من متع الحياة. فهؤلاء المشركون لهم يومهم الذي يوعدون، حيث يلقون ما يعلمه المؤمنون من سوء العذاب، الذي أعدّه اللّه للمشركين والمنافقين والكافرين. إنهم لن يسبقوا يد القدرة المتمكنة منهم، وإنهم لن يفلتوا من بأس اللّه إذا جاءهم. وإنهم إن ظنوا ذلك، فذلك الظن هو الذي يحملهم إلى الردى، ويسوقهم إلى الهلاك. {ساءَ ما يَحْكُمُونَ} اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي رضي الله عنه في قوله: {الم} {أحسب الناس أن يتركوا} قال: أنزلت في أناس بمكة قد اقروا بالإِسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة: إنه لا يقبل منكم قرار ولا إسلام حتى تهاجروا قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة، فأتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه. فخرجوا فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [النحل: 110].
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {الم} {أحسب الناس} قال نزلت في أناس من أهل مكة خرجوا يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فعرض لهم المشركون فرجعوا، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم من القرآن فخرجوا، فقتل من قتل وخلص من خلص، فنزل القرآن {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآيات في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وهؤلاء الآيات العشر مدنيات، وسائرها مكي.
وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت في عمار بن ياسر يعذَّب في الله {أحسب الناس أن يتركوا}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل لعنه الله يعذب عمار بن ياسر وأمه، ويجعل على عمار درعًا من حديد في اليوم الصائف، وطعن في حياة أمه برمح. ففي ذلك نزلت {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وهم لا يفتنون} قال: لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم {ولقد فتنا الذين من قبلهم} قال: ابتلينا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} قال: يبتلون {ولقد فتنا الذين من قبلهم} قال: ابتلينا الذين من قبلهم {فليعلمن الله الذين صدقوا} قال: ليعلم الصادق من الكاذب، والطائع من العاصي، وقد كان يقال: إن المؤمن ليضرب بالبلاء كما يفتن الذهب بالنار، وكان يقال: إن مثل الفتنة كمثل الدرهم الزيف يأخذه الأعمى ويراه البصير.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه كان يقرأ: {فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} قال: يعلمهم الناس.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: كان الله يبعث النبي إلى أمته فيلبث فيهم إلى انقضاء اجله في الدنيا، ثم يقبضه الله إليه فتقول الأمة من بعده، أو من شاء الله منهم: إنا على منهاج النبي وسبيله، فينزل الله بهم البلاء فمن ثبت منهم على ما كان عليه فهو الصادق، ومن خالف إلى غير ذلك فهو الكاذب.
وأخرج ابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أول من أظهر اسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وسمية أم عمار، وعمار، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم ادراع الحديد، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد. والله تعالى أعلم.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه {أم حسب الذين يعملون السيئات} قال: الشرك.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {أن يسبقونا} قال: أن يعجزونا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
بسْم اللَّه الرَّحْمن الرَّحيم.
قوله: {أَن يتركوا} سَدَّ مَسَدَّ مفعولَيْ حَسِب عند الجمهور، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ.
قوله: {أنْ يقولوا} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ {أَنْ يُتْرَكوا} أبدلَ مصدرًا مؤولًا مِنْ مثلِه. الثاني: أنها على إسقاط الخافض وهو الباءُ، أو اللام، أي: بأَنْ يَقولوا، أو لأن يقولوا. قال ابن عطية وأبو البقاء: وإذا قُدِّرَتِ الباءُ كان حالًا. قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلفٌ؛ وذلك أنَّه في الباء كما تقول: تركْتُ زيدًا بحالِه وهي في اللام بمعنى مِنْ أجل أي: أَحَسِبوا أنَّ إيمانَهم عِلةٌ للترك انتهى. وهذا تفسيرُ معنى، ولو فَسَّر الإِعرابَ لقال: أَحُسْبانُهم التركَ لأجل تلفُّظِهم بالإِيمان.
وقال الزمخشري: فإنْ قلتَ: فأين الكلامُ الدالُّ على المضمونِ الذي يَقْتضيه الحُسبانُ؟ قلت: هو في قولِه: {أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}. وذلك أنَّ تقديرَه: أَحَسِبُوا تَرْكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم: آمنَّا، فالتركُ أولُ مفعولَيْ حَسِب ولقولهم {آمنَّا} هو الخبر. وأمَّا غيرَ مفتونين فتتمةُ التركِ؛ لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله:
فَتَرَكْتُه جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَه

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحُسْبان تَقْدِرُ أَنْ تقولَ: تَرَكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم: آمنَّا على تقدير: حاصل ومستقر قبل اللام. فإنْ قلت: {أَنْ يَقُولوا} هو علةُ تَرْكِهم غيرَ مَفْتونين، فكيف يَصِحُّ أن يقعَ خبرَ مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجُه لمخافةِ الشرِّ وضَرْبُه للتأديب، وقد كان التأديبُ والمخافةُ في قولِك: خَرَجْتُ مخافةَ الشرِّ وضَرَبْتُه تأديبًا تعليلين. وتقول أيضًا: حَسِبْتُ خروجَه لمخافةِ الشَّرِّ، وظنَنْتُ ضربَه للتأديب، فتجعلهما مفعولين كما جعلتَهما مبتدأ وخبرًا.
قال الشيخ بعد هذا كلِّه: وهو كلامٌ فيه اضطرابٌ؛ ذكر أولًا أنَّ تقديرَه غيرَ مفتونين تتمةٌ، يعني أنه حالٌ لأنه سَبَكَ ذلك مِنْ قوله: {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} وهي جملةٌ حالية، ثم ذكر أَنَّ {يُتْركوا} هنا من الترك الذي هو تَصْييرٌ. ولا يَصِحُّ؛ لأنَّ مفعولَ صيَّر الثاني لا يَسْتقيمُ أَنْ يكونَ لقولِهم؛ إذا يصيرُ التقديرُ: أن يُصَيَّروا لقولِهم وهم لا يُفْتنون، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ. وأمَّا ما مَثَّله به من البيت فإنه يَصِحُّ أن يكون جَزَرَ السِّباع مفعولًا ثانيًا ل تَرَكَ بمعنى صَيَّر، بخلاف ما قَدَّر في الآية. وأمَّا تقديرهُ تَرَكهم غيرَ مفتونين لقولهم {آمَنَّا} على تقديرِ حاصل ومستقر قبل اللام فلا يَصِحُّ إذا كان تركُهم بمعنى تصييرهم، وكان غيرَ مفتونين حالًا؛ إذ لا يَنْعَقِد مِنْ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم وَتَقَوُّلِهم مبتدأٌ وخبرٌ، لاحتياجِ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم إلى مفعولٍ ثانٍ لأنَّ غيرَ مفتونين عنده حالٌ لا مفعولٌ ثانٍ.
وأمَّا قولُه: فإنْ قلت: أَنْ يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فَضْلِ فَهْمٍ: وذلك أنَّ قولَه: {أَنْ يقولوا} هو علةُ تَرْكِهم فليس كذلك؛ لأنه لو كان علةً له لكان به متعلقًا كما يتعلَّقُ بالفعلِ، ولكنه علةٌ للخبرِ المحذوفِ الذي هو مستقر أو كائن، والخبرُ غيرُ المبتدأ، ولو كان لقولِهم علةً للترك لكان مِنْ تمامِه فكان يحتاج إلى خبرٍ. وأمَّا قولُه كما تقول: خروجُه لمخافةِ الشرِّ ف لمخافة ليس علةً للخروجِ بل للخبر المحذوف الذي هو مستقرٌّ أو كائن انتهى.
قلت: وهذا الذي ذكره الشيخُ كلُّه جوابُه: أنَّ الزمخشريَّ إنما نظر إلى جانب المعنى، وكلامُه عليه صحيحٌ. وأمَّا قولُه: ليس علةً للخروج ونحو ذلك يعني في اللفظ. وأمَّا في المعنى فهو علةٌ له قطعًا، ولولا خَوْفُ الخروج عن المقصود.
قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} العامَّةُ على فتح الياء مضارعَ عَلِم المتعديةِ لواحد. كذا قالوا. وفيه إشكالٌ تقدَّمَ غيرَ مرةٍ: وهو أنها إذا تَعَدَّتْ لمفعولٍ كانَتْ بمعنى عَرَفَ. وهذا المعنى لا يجوز إسنادُه إلى الباري تعالى؛ لأنه يَسْتَدعي سَبْقَ جهلٍ؛ ولأنه يتعلَّقُ بالذاتِ فقط دون ما هي عليه من الأحوالِ.
وقرأ عليٌّ وجعفرُ بن محمد بضمِّ الياءِ، مضارعَ أَعْلم. ويحتمل أَنْ يكونَ مِنْ عَلِم بمعنى عَرَفَ، فلمَّا جِيْءَ بهمزةِ النقلِ أَكْسَبَتْها مفعولًا آخرَ فَحُذِفَ. ثُم هذا المفعولُ يُحتمل أَنْ يكونَ هو الأولَ أي: لَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الناسَ الصادقين، وليُعْلِمنَّهم الكاذبين، أي: بشهرةٍ يُعْرَفُ بها هؤلاءِ مِنْ هؤلاء. وأن يكونَ الثاني أي: ليُعْلِمَنَّ هؤلاء منازِلَهم، وهؤلاءِ منازلَهم في الآخرةِ. ويُحتمل أَنْ يكونَ من العلامةِ وهي السِّيمِياء، فلا يتعدَّى إلاَّ لواحدٍ. أي: لنجعلَنَّ لهم علامةً يُعرفون بها. وقرأ الزهريُّ الأولى كالمشهورةِ، والثانيةَ كالشاذة.
قوله: {أم حَسِبَ} {أم} هذه منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ عند الجمهورِ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطال. وقال ابنُ عطية: {أم} معادِلَةٌ للألفِ في قوله: {أَحَسِبَ} وكأنَّه عَزَّ وجَلَّ قَرَّر الفريقين: قرر المؤمنين على ظَنِّهم أنَّهم لا يُفْتَنُون، وقَرَّر الكافرين أنهم يَسْبِقُون عقابَ اللَّهِ. قال الشيخ: ليسَتْ معادِلةً؛ إذ لو كانت كذلك لكانَتْ متصلةً. ولا جائزٌ أَنْ تكونَ متصلةً لفَقْدِ شرطَيْن، أحدهما: أنَّ ما بعدَها ليس مفردًا، ولا ما في قوته. والثاني: أنَّه لم يكن هنا ما يُجابُ به مِنْ أحد شيئين أو أشياء.
وجَوَّز الزمخشريُّ في حَسِبَ هذه أَنْ تتعدَّى لاثنين، وجعل أنَّ وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّهما كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة} [البقرة: 214] ، وأَنْ تتعدَّى لواحدٍ على أنها تَضَمَّنَتْ معنى قَدَّر. إلاَّ أنَّ التضمينَ لا يَنْقاسُ.
قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {ساء} يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى بِئْس، فتكونُ {ما} إمَّا موصولةً بمعنى الذي، و{يَحْكمون} صلتُها. وهي فاعلُ {ساء}. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: حُكْمُهم. ويجوز أَنْ تكونَ {ما} تمييزًا، و{يَحْكُمون} صفتُها، والفاعلُ مضمرٌ يُفَسِّره {ما} والمخصوصُ أيضًا محذوفٌ. ويجوزُ أَنْ تكونَ {ما} مصدريةً، وهو قولُ ابنِ كَيْسان. فعلى هذا يكونُ التمييزُ محذوفًا، والمصدرُ المؤولُ مخصوصٌ بالذمِّ أي: ساءَ حُكْمًا حكمُهم. وقد تقدَّمَ حكمُ {ما} إذا اتصلَتْ ب {بِئْسَ} مُشْبعًا في البقرة. ويجوزُ أَنْ تكونَ {ساء} بمعنى قَبُح، فيجوز في {ما} أَنْ تكونَ مصدريةً، وبمعنى الذي، ونكرةً موصوفَةً. وجيْءَ ب {يَحْكمون} دونَ حُكْمِه: إمَّا للتنبيهِ على أن هذا دَيْدَنُهم، وإمَّا لوقوعِه مَوْقِعَ الماضي لأجلِ الفاصلة. اهـ.