فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
سورة العنكبوت:
قوله جل ذكره: بسم الله الرحمن الرحيم.
بسم الله اسم يوجب حظوة العابدين وعدا، وسماعه يوجب سلوة الوجدين نقدا اسم من ذكره وصل إلى مثوبه في آجله، ومن سمعه حظي بقربته في عاجله.
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}.
الألف: إِشارة إلى تَفَرُّده عن كل غير بوجه الغِنى، وباحتياج كل شيءِ إليه؛ كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرفٍ.
واللام تشير إلى معنى أنه ما من حرفٍ إلا وفي آخره صورة تعويج ما، واللام أقرب الحروف شبهًا بالألف- فهي منتصبة القامة مثلها، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شيء ولكن اللام تتصل بغيرها- فلا جَرَمَ لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام.
أمّا الميم فالإشارة فيه إلى الحرف مِنْ؛ فَمِنَ الربِّ الخَلْقُ، ومِنَ العبدِ خدمةُ الحق، ومن الربِّ الطَّوْلُ والفضلُ.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ} بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى، وهذا لا يكون، فقيمة كلِّ أحدٍ ببلواه، فَمَنْ زاد قَدْرُ معناه زاد قدر بلواه؛ فعلى النفوس بلاءٌ وهو المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل. وعلى القلوب بلاءٌ وهو مطالبتُها بالطلب والفكر الصادق بتطلُّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم. وعلى الأرواح بلاءٌ وهو التجرُّدُ عن محبة كلِّ أحدٍ والتفرُّد عن كل سبب، والتباعُد عن كل المساكنةِ لشيءٍ من المخلوقات. وعلى الأسرار بلاءٌ وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلِّي إلى أن تصير مُسْتَهْلَكًا فيه.
ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول في أوان المشاهدات. وأشدُّ الفتنِ حفظُ وجود التوحيد لئلا يجري عليك مَكْرٌ في أوقات غَلَبَاتِ شاهد الحقِّ فيظن أنه الحق، ولا يدري أَنَّه من الحقِّ، وأنَّه لا يُقال إِنَّه الحقُّ- وعزيزٌ مَنْ يهتدي إلى ذلك.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}.
لم يُخْلِهم من البلاء والمِحَن لِيُظْهِرِ صبرَهم في البلاءِ أو ضدَّه من الضَجَرِ، وشكرهم في الرخاء أو ضدة من الكفر والبَطَرِ. وهم في البلاءِ ضروب: فمنهم مَنْ يصبر في حال البلاء، ويشكر في حال النَّعماء. وهذه صفة الصادقين. ومنهم مَنْ يضجُّ ولا يصبر في البلاء، ولا يشكر في النعماء. فهو من الكاذبين. ومنهم مَنْ يؤثِر في حال الرخاء أَلاَّ يستمتعَ بالعطاء، ويستروح إلى البلاءِ؛ فَيَسْتَعْذِبَ مقاساةَ الَضُّرِّ والعناء. وهذا أَجَلُّهم.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}.
يرتكبون المخالفاتِ ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة. ساءَ حُكْمُهم! فمتى ينجوا منَ العذابِ مَنْ ألقى جلبابَ التُّقى؟!.
ويقال توهموا أنه لا حَشْرَ ولا نَشْرَ، ولا محاسبة ولا مطالبة.
ويقال اغتروا بإمهالنا اليومَ، وَتَوَهَّموا أنهم مِنَّا قد أفلتوا، وظنوا أنهم قد أَمِنُوا.
ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئاتِ أَنْ جرى التقريرُ لهم بالسعادة، وأنَّ ذلك يؤخر حُكْمَنا. كلا، فلا يشقى مَنْ جَرَتْ قسمتُنا له بالسعادة، وهيهات أن يتحول مَنْ سبق له الحُكْمُ بالشقاوة!. اهـ.

.قال السبكي:

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} عَنْ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قال: {أَنْ يُتْرَكُوا} سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ و{أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} حَقِيقَةً فَهُوَ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْت فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ فِي الْآيَةِ.
قُلْت هُوَ فِي قوله: {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ.
أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا.
فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ حَسِبَ وَلِقَوْلِهِمْ {آمَنَّا} هُوَ الْخَبَرُ فَعَجِبْت مِنْ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَتَّبِعُ الزَّجَّاجَ فَكَيْفَ خَالَفَهُ هُنَا؟ حَتَّى وَقَفْت عَلَى مَقْصُودِ الْآيَةِ.
وَهُوَ أَنَّ الْمُنْكَرَ حُسْبَانُهُمْ التَّرْكَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ لَا يَزَالُونَ يُفْتَنُونَ حَتَّى يَعْلَمَ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَعْلَمَ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْكَاذِبِ؛ فَحِينَئِذٍ يُتْرَكُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَإِنْ لَمْ يُتْرَكْ مِنْ التَّكَالِيفِ؛ لِقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} فَهَذَا التَّرْكُ غَيْرُ ذَاكَ التَّرْكِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ إنْكَارَ حُسْبَانِ مُطْلَقِ التَّرْكِ لَصَحَّ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فَحِينَمَا وَقَفْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلِمْت صِحَّةَ مَا قَصَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ لابد لِلتَّرْكِ الَّذِي أَنْكَرَ حُسْبَانَهُ مِنْ تَتِمَّةٍ، لَكِنَّ التَّتِمَّةَ كَمَا تَكُونُ بِجَعْلِ مَا بَعْدَ التَّرْكِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَأَكُّدِهِ كَوْنَ تَغَيُّرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَكُونَ {أَنْ يُتْرَكُوا} سَادَّةً مَسَدَ الْمَفْعُولَيْنِ.
وَقوله: {أَنْ يَقُولُوا} تَعْلِيلٌ إمَّا لِيُتْرَكُوا مَعْمُولٌ لَهُ، وَإِمَّا لِحَسِبَ مَعْمُولٌ لَهُ.
فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْمُولًا لِيُتْرَكُوا فَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ الْمُعَلَّلِ بِالْقَوْلِ.
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْمُولًا لِحَسِبَ فَالْمُنْكَرُ الْحُسْبَانُ الْمُعَلَّلُ بِالْقَوْلِ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَقوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} حَالٌ إمَّا مِنْ الضَّمِيرِ فِي {يَقُولُوا} سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي التَّرْكِ أَوْ فِي الْحُسْبَانِ.
وَإِمَّا مِنْ الضَّمِيرِ فِي {يُتْرَكُوا} إذَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي التَّرْكِ دُونَ مَا إذَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي الْحُسْبَانِ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ.
هَذَا الَّذِي أَرَاهُ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَإِعْرَابِهَا وَمَعْنَاهَا.
ثُمَّ نَظَرْت فِي جَعْلِ الْمَفْعُولَيْنِ مُصَرَّحًا بِهِمَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَاسْتَحْضَرْت قَوْلَ النُّحَاةِ فِي أَنَّ أَنْ والْفِعْلَ يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيُقَدَّرُ مَعَهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ فَالتَّصْرِيحُ بِهِمَا خِلَافُ الْمَذْهَبَيْنِ، ثُمَّ قُلْت فِي نَفْسِي: لَعَلَّ الْمَذْهَبَيْنِ حَيْثُ يَتِمُّ الْكَلَامُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ.
أَمَّا حَيْثُ لَا يَتِمُّ فَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِالْمَفْعُولِ الْآخَرِ، لِأَنَّ أَنْ، وَالْفِعْلَ كَالْمَصْدَرِ فَكَمَا تَقُولُ: حَسِبْت تَرْكَهُمْ كَقَوْلِهِمْ كَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ حَسِبْت أَنْ يُتْرَكُوا لِلْقَوْلِ، وَفِي هَذَا فَضْلُ نَظَرٍ، لِأَنَّ صَرِيحَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَصَوُّرِيٍّ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِفَادَةِ، وَأَنْ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَصْدِيقِيٍّ مُسْتَقِلٍّ بِالْإِفَادَةِ.
وَمِنْ ثَمَّ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
فَهَلْ يَقَعُ أَنْ وَالْفِعْلُ مَقْصُودًا بِهِ التَّصَوُّرِيُّ فَقَطْ حَتَّى يَقَعَ بَعْدَهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَوْ يَقَعَ صَرِيحُ الْمَصْدَرِ مَقْصُودًا بِهِ التَّصْدِيقِيُّ حَتَّى يَسُدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ؟ لَمْ أَرَ لِلنُّحَاةِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ، وَيَحْتَاجُ إلَى سَمَاعٍ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَقْرَبُ خِلَافُهُ.
فَعَلَى هَذَا يَضْعُفُ مَا قَصَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَإِنْ صَحَّ فَيَمْشِي مَا قَالَهُ.
وَهَلْ يَصِحُّ مَثَلًا أَنْ يُقَالَ: حَسِبْت أَنْ يَقُومَ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَقْعُدَ؟ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى سَمَاعٍ وَلَمْ أَجِدْهُ.
فَلِذَلِكَ أُوَافِقُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالْمَفْعُولَيْنِ وَاكْتَفَيْت بِالتَّتِمَّةِ بِالتَّعْلِيلِ وَالْحَالِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْآيَةِ الَّذِي قَصَدَهُ وَقَصَدَ بِهِ بِذَلِكَ دُونَ ارْتِكَابِ أَمْرٍ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ كَلَامُ النُّحَاةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ التَّرْكَ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، هُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِهْمَالِ وَالتَّخْلِيَةِ.
وَالْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا ضَرُورَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَقْدِيرُهُ أَحَسِبُوا تَرَكَهُمْ.
فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ أَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَلَكِنْ قَدْ أَشَرْنَا إلَى الْفَرْقِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي تَقْدِيرِهِ غَيْرَ مَفْتُونِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ التَّصْيِيرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا.
وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ سَبَكَهُ مِنْ قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وَقوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَانِيًا لِأَجْلِ الْوَاوِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّ كَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ سَبَكَهُ فِي مَعْنَى {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} يَجِبُ صِحَّةُ وُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ وَلَوْ وَقَعَ {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} مَوْقِعَهُ لَكَانَ مِنْ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ فِي الْآيَةِ وَوَقَعَ الْخَبَرُ قَبْلَهُ وَالْخَبَرُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الصِّلَةِ لَزِمَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ: وَقَوْلُهُمْ {آمَنَّا} هُوَ الْخَبَرُ يَعْنِي فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْآنَ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى رَأْيِهِ وَقَوْلُهُ وَأَمَّا غَيْرُ مَفْتُونِينَ فَتَتِمَّةُ التَّرْكِ صَحِيحٌ؛ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوْ حَالٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَتِمَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ أَمْ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ.
وَقوله: {أَنْ يَقُولُوا} عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ فَيَسْتَحِيلُ إذْ هُوَ خَبَرٌ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَقَوْلُهُ كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ لَيْسَ مِثْلُهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مُفْرَدٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ وَحْدَهُ فَاحْتَجْنَا أَنْ نَجْعَلَ أَحَدَهُمَا مُبْتَدًَا وَالْآخَرَ خَبَرًا وَالْآيَةُ فِيهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا تَامًّا قَبْلَ اللَّامِ، فَاحْتَمَلَتْ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ خُرُوجُهُ مَخَافَةَ الشَّرِّ صَحِيحٌ وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّ خَرَجَتْ كَلَامٌ تَامٌّ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا مَخَافَةُ الشَّرِّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا، وَلَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ لِاحْتِمَالِهَا الْوَجْهَيْنِ وَقَوْلُهُ حَسِبْت خُرُوجَهُ أَحَدُهُمَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَخَافَةَ الشَّرِّ هُوَ الثَّانِي إلَّا إنْ جَوَّزْنَا أَنَّ خُرُوجَهُ يَقَعُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ فَيَكُونُ نَظِيرَ الْآيَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ النَّظِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ انْتَهَى.
فصل:
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ وأَنْ وَالْفِعْلِ الْمُؤَوَّلَيْنِ بِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَدَثِ أَنَّ مَوْضِعَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ الْحَدَثُ فَقَطْ.
وَهُوَ أَمْرٌ تَصَوُّرِيٌّ وأَنْ وَالْفِعْلُ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِالْحُصُولِ إمَّا مَاضِيًا وَإِمَّا حَالًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَإِنْ كَانَ إثْبَاتًا وَبِعَدَمِ الْحُصُولِ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ نَفْيًا، وَهُوَ أَمْرٌ تَصْدِيقِيٌّ وَلِهَذَا يَسُدُّ أَنْ وَالْفِعْلُ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ النِّسْبَةِ، فَإِنْ قُلْت مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُصُولِ أَوْ عَدَمِهِ؛ وَهُمَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ؟ قُلْت مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ فَحَافَظْنَا عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ مَعَ أَنْ فَإِنْ قُلْت وَمِنْ أَيْنَ لِلْفِعْلِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُدُوثِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالزَّمَانِ لَا عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا عَدَمِهِ؟ قُلْت بَلْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْفِعْلُ عَنْ الِاسْمِ فَإِنَّ اسْمَ الزَّمَانِ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ كَأَمْسِ وَغَدٍ وَالْآنَ عَلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ.
وَكُلٌّ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى حَدَثٍ وَزَمَنٍ وَلَيْسَتْ بِأَفْعَالٍ، وَالصَّبُوحُ يَدُلُّ عَلَى حَدَثٍ وَزَمَانٍ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ؛ وَضَارِبٌ اسْمُ فَاعِلِ مَعْنَى الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى أَحَدِ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّ مَوْضُوعَهُ الْإِشْعَارُ لَهُ بِالْحُصُولِ وَلَا عَدَمِهِ بَلْ هُوَ تَصَوُّرٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْحُصُولِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ كَذَلِكَ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ بِهَيْئَتِهِ وَأَوْزَانِهِ وَعَلَى الْحَدَثِ بِمَادَّتِهِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ قَاصِرٌ عَمَّا قُلْنَاهُ وَعَمَّا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ، فَإِنَّك إذَا قُلْت ضَرَبَ زَيْدٌ تَسْتَفِيدُ مِنْ ضَرَبَ نِسْبَةَ الضَّرْبِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي.
وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ وَالضَّرْبُ وَزَمَانُهُ وَهُمَا تَصَوُّرَانِ، وَنِسْبَتُهُ التَّصْدِيقِيَّةُ.
غَيْرَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْفَاعِلِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ لَا الْمَفْعُولِ الَّذِي حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ، إنْ بَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى يَتِمَّ الْكَلَامُ وَالتَّصْدِيقُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ كَلِمَةٌ تُسْنَدُ أَبَدًا وَالْإِسْنَادُ نِسْبَةٌ فَبِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ عَرَفْت الْإِسْنَادَ وَبَقِيت مُحْتَاجًا إلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِ.
وَإِذَا تَأَمَّلْت هَذَا الْمَعْنَى عَرَفْت أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ؛ وَأَنَّهُ حَقٌّ، وَتَحَقَّقَتْ بِهِ دَلَالَةُ: أَنْ وَالْفِعْلِ عَلَى الْوُقُوعِ إمَّا ثَابِتًا وَإِمَّا مَنْفِيًّا بِخِلَافِ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى لَا إشْعَارَ لَهُ بِوُقُوعٍ أَلْبَتَّةَ.
وَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ وَنَفْسُ ضَرَبَ الْمُتَحَرِّكِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ فِعْلٍ فِي الْمَاضِي بَلْ لَيْسَ مَدْلُولُهُ إلَّا ذَلِكَ وَحُدُوثُ الضَّرْبِ فِي الْمَاضِي نِسْبَةٌ تَسْتَدْعِي الضَّرْبَ الْحَادِثَ وَالزَّمَانَ الْمَاضِيَ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ دَلَالَتَهَا عَلَيْهِمَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَفِيهِ تَسَمُّحٌ، وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ جَعَلُوا دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الزَّمَانِ مِنْ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ وَابْنُ الطَّرَاوَةِ قَالَ إنَّهَا بِالِانْحِرَارِ يَعْنِي الِالْتِزَامَ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحُدُوثِ وَعِنْدِي أَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْمَوْضُوعُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْحُصُولِ أَوْ الْحُدُوثِ أَوْ الْكَوْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَارَةً يُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مِنْ غَيْرِ عَارِضٍ بِمَاهِيَّةٍ وَتَارَةً يُؤْخَذُ مَعَ عُرُوضِهِ لِلْمَاهِيَّةِ فَالْأَوَّلُ تَصَوُّرٌ مَحْضٌ، وَاخْتِيرَ لَهُ اسْمُ الْحُصُولِ لِيَتَطَابَقَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي الْإِفْرَادِ، وَالثَّانِي فِيهِ نِسْبَةٌ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا وَمِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَبْقَى يَحْتَاجُ إلَّا إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ وَاخْتِيرَ لَهُ أَنْ وَالْفِعْلُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النِّسْبَةِ مَعَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَوْ أُطْلِقَ الْحُصُولُ وَأُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَبْعُدْ، وَلَوْ أُطْلِقَ أَنْ وَالْفِعْلُ وَأُرِيدَ الْمُفْرَدُ كَانَ بَعِيدًا.
هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَلَسْنَا فِيهِ مُتَحَكِّمِينَ وَلَا مُنْكِرِينَ أَمْرًا لَمْ نَصِلْ إلَى فَهْمِهِ بَلْ مُثْبِتِينَ لِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَرْشَدَتْنَا إلَيْهِ مُحَاوَرَاتُهُمْ وَإِنْ أَهْمَلُوا التَّنْصِيصَ عَلَيْهَا إحَالَةً عَلَى الْأَذْهَانِ السَّلِيمَةِ وَالِارْتِيَاضِ فِي الْعُلُومِ بِفِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ قَالَ تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَهُوَ مِثْلُ: وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ فِي مَعْنَى يُعْجِبُنِي قِيَامُك.
قُلْت قَوْله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا} مَعْنَاهُ وَأَنْ يُوجَدَ مِنْكُمْ الصَّوْمُ، فَذَلِكَ الَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمُفْرَدُ التَّصَوُّرِيُّ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُعْجِبُنِي أَنْ تَقُومَ إنَّمَا أَعْجَبَك اتِّخَاذُهُ لِلْقِيَامِ فِي الْحَالِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ مُجَرَّدِ صِفَةِ الْقِيَامِ فَإِنْ قُلْت لَوْ دَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْوُقُوعِ لَكَانَ كَلَامًا.