فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ}.
بيانٌ لما يستتبعه قولُهم ذلك في الآخرةِ من المضرة لأنفسِهم بعد بيانِ عدم منفعتِه لمخاطبيهم أصلًا، والتَّعبيرُ عن الخطايا بالأثقالِ للإيذانِ بغابة ثقلِها وكونِها فادحةً. واللامُ جوابّ قَسَمٍ مضمرٍ، أي وبالله ليحملنَّ أثقالَ أنفسِهم كاملةً {وَأَثْقَالًا} أُخرَ {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} لمَّا تسببُوا بالاضلالِ، والحملُ على الكفرِ والمَعاصي من غيرِ أنْ ينتقص من أثقالِ من أضلُّوه شيءٌ ما أصلًا {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا} سؤالَ تقريعٍ وتبكيتٍ {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يختلقونَه في الدُّنيا من الأكاذيبِ والأباطيلِ التي من جملتها كذبُهم هذا.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيدًا للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى. قالُوا كان عمرُ نوحٍ عليه السَّلام ألفًا وخمسين عامًا بعث على رأس أربعين سنةٍ ودعا قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعائ بعد الطُّوفانِ ستين سنة، وعن وهبٍ أنَّه عاشَ ألفًا وأربعمائة سنة ولعلَّ ما عليه النَّظمُ الكريمُ للدِّلالةِ على كمال العددِ فإن تسعمائة وخمسين قد بُطلق على ما يقرُب منه. ولَما في ذكرِ الألفِ من تخييلِ طولِ المدَّةِ فإنَّ المقصودَ من القصة تسليةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مُكابدةِ ما يناله من الكفرةِ. وإظهارُ ركاكةِ رأي الذين يحسبونَ أنَّهم يُتركون بلا ابتلاءٍ واختلافُ المميزِ لما في التَّكريرِ من نوع بشاعةٍ. {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} أي عقيبِ تمامِ المَّدةِ المذكورةِ. والطُّوفان يطلقُ على كلِّ ما يطوفُ بالشيء على كثرةٍ وشدَّةٍ من السَّيلِ والرَّيحِ والظَّلامِ وقد غلب على طُوفانِ الماءِ {وَهُمْ ظالمون} أي والحالُ أنَّهم مستمرُّون على الظُّلمِ لم يتأثَّروا بما سمعُوا من نوحٍ عليه السَّلام من الآياتِ ولم يَرعُووا أعماهُم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدَّة المتماديةِ.
{فأنجيناه} أي نوحًا عليه السَّلام {وأصحاب السفينة} أي ومَن ركب فيها معه من أولادِه وأتباعِه وكانُوا ثمانين وقيل: ثمانيةً وسبعين وقيل: عشرةً وقيل ثمانيةً نصفُهم ذكورٌ ونصفُهم إناثٌ {وجعلناها} أيِ السَّفينةَ أو الحادثةَ والقصَّةَ {آيَةً للعالمين} يتَّعظِون بها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}.
شروع في بيان إفتتان الأنبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدًا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الايمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصير هؤلاء لمؤمنون أولى وأحرى، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة، قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار، وهم قالوا: لابد من ذكر المجرور، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحًا به في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بعث الله تعالى نوحًا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا، وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة، وقيل: إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك، أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال: إن الله تعالى أرسل نوحًا عليه السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث ألفًا وسبعمائة سنة، وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفًا وأربعمائة سنة، وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة، وقيل: مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء.
قال ابن عطية: يحتمل أن يكون ما ذكر الله عز وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم، وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرًا، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمرًا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتًا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينًا نصًا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة، والنكتة في اختيار السنة أولًا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسي من قومه {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} أي عقيب تمام المدة المذكورة، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج:
حتى إذا ما يومها تصبصبا ** وغم طوفان الظلام إلا ثأبا

وقد غلب على طوفان الماء وهو المراد هنا {وَهُمْ ظالمون} أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية.
{فأنجيناه} أي نوحًا عليه السلام {وأصحاب السفينة} أي من ركب فيها معه من أولاده وأتباعه، وكانوا ثمانين، وقيل: ثمانين وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم، وعن محمد ابن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وروى مرفوعًا كانوا ثمانين نوح وأهله وبنوه الثلاثة أي مع أهليهم {وجعلناها} أي السفينة {ءايَةً للعالمين} عبرة وعظة لهم لبقائها زمانًا طويلًا على الجودي يشاهدها المارة ولاشتهارها فيما بين الناس، ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}.
سيقت هذه القصة واللاتي بعدها شواهد على ما لقي الرسل والذين آمنوا معهم من تكذيب المشركين كما صرح به قوله عقب القصتين {وإن تُكذّبوا فقد كذّب أمم من قبلكم} [العنكبوت: 18] على أحد الوجهين الآتيين.
وابتدئت القصص بقصة أول رسول بعثه الله لأهل الأرض فإن لأوليات الحوادث وقعًا في نفوس المتأمّلين في التاريخ، وقد تقدم تفصيل قصته في سورة هود.
وزادت هذه الآية أنه لبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة.
وظاهر الآية أن هذه مدة رسالته إلى قومه ولا غرض في معرفة عمره يوم بعثه الله إلى قومه، وفي ذلك اختلاف بين المفسرين، وفائدة ذكر هذه المدة للدلالة على شدة مصابرته على أذى قومه ودوامه على إبلاغ الدعوة تثبيتًا للنبيء صلى الله عليه وسلم وأوثر تمييز {ألف} ب {سنة} لطلب الخفة بلفظ {سنة} وميز {خمسين} بلفظ {عامًا} لئلا يكرر لفظ {سنة}.
والفاء من قوله: {فأخذهم الطوفان} عطف على {أرسلنا} كما عطف عليه {فلبث} وقد طوي ذكر ما ترتب عليه أخذهم بالطوفان وهو استمرار تكذيبهم.
وجملة {وهم ظالمون} حال، أي أخذهم وهم متلبسون بالظلم، أي الشرك وتكذيب الرسول، تلبسًا ثابتًا لهم متقررًا وهذا تعريض للمشركين بأنهم سيأخذهم عذاب.
وفاء {فأنجيناه} عطف على {فأخذهم الطوفان}.
وهذا إيماء إلى أن الله منجي المؤمنين من العذاب.
وقوله: {وجعلناها ءاية للعالمين} الضمير للسفينة.
ومعنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذابًا من الله للمكذبين الرسل، فكانت السفينة آية ماثلة في عصور جميع الأمم الذين جاءتهم الرسل بعد نوح موعظة للمكذبين وحجة للمؤمنين.
وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدر الأمة الإسلامية ففي صحيح البخاري: قال قتادة: بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة ويقال إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج.
وكان الجودي قرب باقِرْدَى وهي قرية من جزيرة ابن عمر بالموصل شرقي دجلة وباقردى بموحدة بعدها ألف ثم قاف مكسورة ويجوز فتحها ودال فألف مقصورة وقال تعالى في سورة القمر: {ولقد تركناها ءاية فهل من مدُكر} وإنما قال: {للعالمين} الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته، ولأن الذين من أهل قريتها يُخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة.
هذا وقد وقع في الإصحاح الثامن من سفر التكوين من التوراة واستقر الفلك على جبال آراراط، وقد اختلف الباحثون في تعيين جبال أراراط، فمنهم من قال: إنه اسم الجودي وعينوا أنه من جبال بلاد الأكراد في الحد الجنوبي لأرمينيا في سهول ما بين النهرين ووصفوه بأن نهر دجلة يجري بين مرتفعاته بحيث لا يمكن العبور بين الجبل ونهر دجلة إلا في الصيف، وأيدوا قولهم بوجود بقية سفينة على قمة ذلك الجبل.
وبعضهم زعم أن أراراط في بلاد أرمينيا وهو قريب من القول الأول لتجاور مواطن الكردستان وأرمينيا وقد تختلف حدود المواطن باختلاف الدول والفتوح.
ويجوز أن يكون ضمير النصب في {وجعلناها} عائدًا إلى الخبر المذكور بتأويل القصة أو الحادثة. اهـ.