فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن وأنه قادر على إيجاد أمثالها فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.
والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن لأن للشيء المتقرر تحققًا محسوسًا.
وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشىء النشأة الآخرة.
ولذلك أعقب بجملة {ثم الله ينشىء النشأة الآخرة} فهي جملة مستقلة.
و{ثم} للترتيب الرتبي كما تقدم في قوله: {ثم يعيده} [العنكبوت: 19].
وإظهار اسم الجلالة بعد تقدم ضميره في قوله: {كيف بدأ الخلق} وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ثم ينشىء.
قال في الكشاف: لأن الكلام كان واقعا في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فالذي لم يعجزه الإبداء فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة.
فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشىء النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. اهـ.
يريد أن العدول عن الإضمار إلى الإسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضارا لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين، وليفيد وقوع المسند إليه مخبرا عنه بمسند فعلي معنى التقوي.
وجملة {إن الله على كل شيء قدير} تذييل، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده.
وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال.
و{النشأة} بوزن فعلة: المرة من النشء وهو الإيجاد، وكذلك قرأها الجمهور، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النشء الأول ويقال: النشاءة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرءافة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {النشاءة} بالمد.
ووصفها ب {الآخرة} إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها.
وأما قوله تعالى: {ولقد علمتم النشأة الأولى} [الواقعة: 62] فذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله {وننشئكم فيما لا تعلمون} [الواقعة: 61] يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقابلتها بالنشأة.
{يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21)}.
لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب.
وابتدىء بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب.
ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جريا على غالب الاستعمال فيهما.
والتقدير: من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته.
والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون، والمقصود هنا هم الفريقان معا كما دل عليه الخطاب العام في قوله: {وإليه تقلبون}.
والقلب: الرجوع، أي وإليه ترجعون.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتأكيد إذ ليس المقام للحصر إذ ليس ثمة اعتقاد مردود.
وفي هذا إعادة إثبات وقوع البعث وتعريض بالوعيد.
{وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22)}.
عطف على جملة {وإليه تقلبون} [العنكبوت: 21] باعتبار ما تضمنته من الوعيد.
والمعجز حقيقته: هو الذي يجعل غيره عاجزا عن فعل ما، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين} في سورة [الأنعام: 134].
فالمعنى: وما أنتم بمفلتين من العذاب.
ومفعول {معجزين} محذوف للعلم به، أي بمعجزين الله.
ويتعلق قوله: {في الأرض} {بمعجزين} أي ليس لكم انفلات في الأرض، أي لا تجدون موئلا ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها، وبدوها وحضرها.
وعطف {ولا في السماء} على {في الأرض} احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء.
وهذا كقول الأعشى:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ** ورقيت أسباب السماء بسلم

ومنه قوله تعالى: {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} [سبأ: 22] ، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية سورة [الشورى: 30، 31] {ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} لأن تلك الآية جمعت خطابا للمسلمين والمشركين بقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] إذ العفو عن المسلمين.
وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سلمي الضبي:
ولو طار ذو حافر قبلها ** لطارت ولكنه لم يطر

وهي أظهر في قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33].
وفي هذه إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير الوعيد الذي توعدوه في الدنيا.
ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة.
{والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23)}.
بيان لما في قوله: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} [العنكبوت: 21] وإنما عطف لما فيه من زيادة الإخبار بأنهم لا ينالهم الله برحمة وأنه يصيبهم بعذاب أليم.
والكفر بآيات الله: هو كفرهم بالقرآن.
والكفر بلقائه: إنكار البعث.
واسم الإشارة يفيد أن ما سيذكره بعده نالهم من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من أوصاف، أي أنهم استحقوا اليأس من الرحمة وإصابتهم بالعذاب الأليم لأجل كفرهم بالقرآن وإنكارهم البعث على أسلوب {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وأخبر عن يأسهم من رحمة الله بالفعل المضي تنبيها على تحقيق وقوعه.
والمعنى: أولئك سييأسون من رحمة الله لا محالة.
والتعبير بالاسم الظاهر في قوله: {بآيات الله} دون ضمير التكلم للتنويه بشأن الآيات حيث أضيفت إلى الاسم الجليل لما في الاسم الجليل من التذكير بأنه حقيق بأن لا يكفر بآياته.
والعدول إلى التكلم في قوله: {رحمتي} التفات عاد به أسلوب الكلام إلى مقتضى الظاهر، وإعادة اسم الإشارة لتأكيد التنبيه على استحقاقهم ذلك. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده}.
الخطاب هنا موجه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين كذبوا من قبل، وأنتم الذين تكذبون الآن، فأين عقولكم؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه، والذي طرأتم عليه، وقد أعد لكم بكل مقومات حياتكم.
{أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق} [العنكبوت: 19] ويرى هنا بمعنى يعلم، كما في قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] أي: ألم تعلم؛ لأن رسول الله لم ير حادثة الفيل، وعدل عن {تعلم} إلى {ترى} ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه.
ومن ذلك قول الصديق أبي بكر لما سمع بحادث الإسراء والمعراج قال: إن كان قال فقد صدق.
والهمزة في {أولم يروا} [العنكبوت: 19] استفهام للتقرير، كما تقول لولدك: ألم تر إلى فلان الذي أهمل دروسه، تريد أن تنكر عليه أن يهمل هو أيضا، فتقرره بعاقبة الإهمال، وتدعه ينطقه بلسانه، فيقول لك: الذي أهمل دروسه رسب.
وكما تقول لمن أنكر جميلك: ألم أحسن إليك بكذا وكذا، فيقر بها هو بدل أن تعددها له أنت، فهذا أبلغ في الاعتراف.
فساعة يأتي بعده الهمزة نفي يسمونه استفهاما إنكاريا، تنكر ما هم عليه، وتريد أن تقررهم بما يقابله. والنفي بعد الإنكار نفي للنفي، ونفي النفي إثبات.
فالمعنى: أيكذبون ولم يروا ما حدث للأمم المكذبة من قبل؟ أيكذبون ولم يروا آيات الله، وقدرته شائعة في الوجود كله؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا من خلق هذا الخلق، وإنك لو سألتهم: من خلق هذا الكون لا يجدون جوابا، ولا يملكون إلا أن يقولوا: الله، كما حكى القرآن: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25].
لكن، كيف يقرون بهذه الحقيقة ويعترفون بها، مع أنهم كافرون بالله؟ قالوا: لأنها مسألة أظهر من أن ينكرها منكر، فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه، بل وينسب إلى نفسه ما لم يصنع، فما بالك بكون أعد بهذه الدقة وبهذه العظمة، ولم يدعه أحد لنفسه؟ والدعوى تثبت لصاحبها ما لم يقم لها معارض.
لذلك قلنا: إن الحق سبحانه قبل أن يقول لا إله إلا أنا، وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18] ؛ لأن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول للشيء: كن فيكون، ولو لم يكن يؤمن بأنه إله ما قالها.
والحق سبحانه يقول: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده} [العنكبوت: 19] كيف ونحن لم نر الإعادة، فضلا عن رؤيتنا للبدء؟
قالوا: نرى البدء والإعادة في مظاهر الوجود من حولنا، فنراها في الزرع مثلا، وكيف أن الله تعالى يحيي الأرض بالنبات، ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه الحب أو البذور التي تعيد الدورة من جديد.
والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألوانا بديعة ورائحة زكية، فإذا قطفت تبخر منها الماء، فجفت وتفتتت، وذهبت رائحتها في الجو، ثم تخلفها وردة أخرى جديدة، وهكذا.
انظر مثلا إلى دورة الماء في الكون: هل زادت كمية الماء التي خلقها الله في الكون حين أعده لحياة الإنسان منذ خلق آدم وحواء؟ الماء هو هو حتى الآن، مع ما حدث من زيادة في عدد السكان؛ لأن عناصر الكون هي هي منذ خلقها الله، لكن لها دورة تسير فيها بين بدء وإعادة.
واقرأ إن شئت قوله تعالى: {قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها} [فصلت: 9-10].
فكأن قوت العالم من الزرع وغيره معد من بدء الخليقة، وإلى أن تقوم الساعة لا يزيد، لكنه يدور في دورة طبيعية.
ثم يقول سبحانه: {إن ذلك على الله يسير} [العنكبوت: 19] أيهما: الخلق أم الإعادة؟ أما الخلق فقد أقروا به، ولا جدال فيه، إذن: فالكلام عن الإعادة، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق؟ الخلق الأول من عدم، أما الإعادة فمن موجود، فأيهما أهون في عرفكم وحسب منطقكم؟
لذلك يقول سبحانه: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] مع أن الحق سبحانه لا يقال في حقه: هذا هين، وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.
ثم يخاطب الحق سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم: {قل سيروا في الأرض فانظروا}.
السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟ الحقيقة أننا كما قال سبحانه: {قل سيروا في الأرض} [العنكبوت: 20] أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذن: حين تسير تسير في الأرض فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها.
والعلة في السير {فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 20] وفي آية أخرى {ثم انظروا} [الأنعام: 11] ؛ لأن السير من أرض لأخرى له دافعان: إما للسياحة والتأمل والاعتبار، وإما للتجارة والاستثمار، إن ضاق رزقك في بلادك. فقوله: {قل سيروا في الأرض فانظروا} [العنكبوت: 20] أي: نظر اعتبار وتأمل.
أما في {ثم انظروا} [الأنعام: 11] فثم تفيد العطف والتراخي، كأنه سبحانه يقول لنا: سيروا في الأرض للاستثمار، ثم انظروا نظرة التأمل والاعتبار، ولا مانع من الجمع بين الغرضين.
وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة القصص: {إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد} [القصص: 85] والمراد بذلك الهجرة، وفي هذه السورة تأتي: {ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} [العنكبوت: 56].
والمعنى: إن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، أو: إن لم تكن الآيات الظاهرة لك كافية لتشبع عندك الرغبة في الاعتبار والتأمل فسر في الأرض، فسوف تجد فيها كثيرا من الآيات والعبر في اختلاف الأجناس والبيئات والثمار والأجواء. إلخ.
لذلك يقول سبحانه: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء: 97].
فالأرض كلها لله لا حدود فيها، ولا فواصل بينها، فلما قسمها الناس وجعلوا لها حدودا تمنع الحركة فيها حدثت كثير من الإشكالات، وصعب على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إن ضاق بأحد رزقه.